للقصة في التراث الشعبي أثرها في شرح الأحوال وتقريب المعاني في كل زمان ومكان، شاهدة على عصر ومعبرة عن واقع.
قصة سنوحي طبيب الفرعون فيها من المعاني ما يجعلها تتربع على عرش القصص المنقولة من العصر الفرعوني الموغل في القدم، وتحمل من المعاني ما يغني عن شرح كثير.
تحكي في مشهد منها عن سنوحي الذي رأى رجلا مُلقى على قارعة الطريق، وقد قُطعت يداه ورجلاه، وجسده مشوه لا يوجد فيه موضع إلا وطُعن، ولا يتوقف نزيف دمه، فأخذه سنوحي إلى أبيه ورعاه وعالجه، وحين أفاق بعد بضعة أيام أخبره بقصته المؤلمة.
هذا الرجل يُدعى أخناتون، وكان يملك بعض الأراضي ولديه الكثير من النساء والأطفال. ذات يوم أمره الفرعون "أمفسيس" بالتخلي عن كل أملاكه، بما في ذلك نساؤه وأطفاله، ليأخذهم للقصر لخدمته. وافق أخناتون مجبرا، وكان طلبه الوحيد أن يترك الفرعون له بيته وعُشر ما يملك من ذهب وفضة حتى يستطيع أن يعيش. ولكن الفرعون غضب من طلبه! واعتبر ذلك بجاحةً منه، وأمر حراسه بقطع قدميه ويديه ورميه على الطريق عاريا ليكون عبرة لمن بعده.
بعدها أصبح أخناتون حاقدا على الفرعون، ويتمنى لو أن أحدا ينتقم له منه.
يُكمل سنوحي: بعد سنين حين مات هذا الفرعون الظالم، وكان هو كطبيب في القصر يقف بين الملأ لإتمام مراسم الجنازة، كان يسمع أناشيد الكهنة التي تشيد بعظمة وطهارة وعدل أمفسيس، وكيف كان بارا بالفقراء، ورفيقا على شعبه، وأنه اليوم قد انضم للآلهة الكبار وأصبح واحدا منهم، وأصبحت أعضاؤه متصلة بهم.
الغريب أن سنوحي رأى من بعيد رجلا معاقا يصرخ باكيا على الفرعون، وحين دقق النظر وجد أنه أخناتون!! فأسرع إليه وهو محمول على حمار له، فسأله سنوحي عن سبب بكائه، وهل هي فرحة التخلص من ذلك الظالم، إلا أن رده كان بالنفي!
قال لسنوحي إنه لم يكن يعرف أن فرعون طاهر هكذا، وأنه اليوم سيأخذ حقه ليكون إلها، بل إنه يكره نفسه، لأنه حمل في قلبه ضغينة لذلك الرجل العظيم! ويتمنى لو أنه يسامحه، وأنه كان شريرا لذلك عاقبه الإله، كما أنه يستحق ما فعله به.. أكتفي بالنقل من القصة للدلالة على كيف يتلاعب المستبد بشعبه من المظاليم عبر أذرعه الإعلامية والدينية والاجتماعية.. هي المعادلة إذاً: المستبد وأدواته في مواجهة الشعب وعشوائيته.
لا يكتفي المستبد بالتلاعب بعواطف الناس واستثمار همومهم الحقيقية، بل يعمل على "لخبطة" أولوياتهم في العاطفة والهَمّ.
للإنسان مهما بلغ من الاستعداد النفسي طاقة محدودة المساحة، تحتل العاطفة والهم فيها حيزا من تفكيره وحجما من وقته وقلبه ووجدانه؛ فتشغله نفسه بمقدار ما ملأها وتأسره الهموم بقدر ما أهتم.
للتدليل على ذلك، نشير إلى ما ما نجح فيه الانقلاب بمصر في جعل قطاع منا يتعاطف (مثلا) مع "مطربي المهرجانات" الممنوعين "ظُلما" و"المضطهدين" كونهم "غلابة"، ومثل عامة الناس، وأنهم "مكافحون" وصلوا للمجد بعد تعب وجهد!!
في الوقت ذاته، يسخر قطاع آخر من هذا التعاطف ومبرراته ويبدأ في السخرية منه و"السّف" عليه؛ فتنشب مكلمة ونقاش ومعارك وهمية وطواحين هواء.
ثم تقوم الأذرع بإذكاء النار عبر تصريح رسمي هنا، وقرار نقابي هناك، أو خبر بجريدة وفقرة ببرنامج توك شو حتى تستمر حالة التعاطف المُفتعلة، والتي رويدا ورويدا، ووفق معادلة الامتلاء العاطفي، تحل محل حالة حقيقية جديرة بالتعاطف والاهتمام وما أكثرها في بلادنا.
مثال آخر: معركة الأهلي والزمالك.. بين الفوز والهزيمة والانسحاب. فما الذي يمنع فريقا منتصرا من أن يلعب مباراة جديدة؛ إلا الرغبة المقصودة في صنع دوامة من السخرية ضد قطاع كبير من المواطنين (الجماهير) الذين كانوا يحتفلون بالأمس بإنجاز فريقهم التاريخي من وجهة نظرهم، فيحل الهمّ والاكتئاب محل التفاؤل والفرح، فتنقلب الحالة في جانب منها من مشاعر الزهو بالنصر والفرح بالإنجاز لحالة الاختباء من السخرية والهروب من العار!! وفي جانبها الآخر حالة افتراس وتعالي وانتقام وثأر (ولو بالهزار والمزاح) تحل محل أحاسيس المهزوم في معركة الأمس القريب!
ثم تأتي وفاة الرئيس المخلوع حسني
مبارك لتكون النموذج في التدليل على ما ذكرنا بإسقاط سنين الظلم والاستبداد والسفالة وقلة القيمة، بكلمات لا معنى لها عن كون الرجل كبيرا في السن، وأنه مات ولا داعي للشماتة، وأنه له ما له وعليه ما عليه، وأنه رغم كونه ظالما سارقا قاتلا، إلا أنه بطل لحرب أكتوبر ويستحق جنازة عسكرية رسمية واحتفاءً شعبيا مستحقا!
وهكذا يتلاعب بنا المستبدون فيصنعون فصولا جديدة من فقه
الاستبداد، بتدوير دوامات متتابعة من حالات التعاطف الوهمي ومساحات الهَمّ والاهتمام المزيفة التي تأكل الروح بلا طائل، وتشحن النفس بلا فائدة وتضيع العمر بلا محصلة.
تستهلك أبجديات وقيم الفطرة من اهتمام بالمهم، ورغبة في الثأر وإبداء الرأي، والتعاطف مع الضعيف وصاحب الحق، والنهي عن المنكر، واجتناب البغي وغيرها من القيم التي تستهلكها في محيط ساخر "هايف" لا ينصر حقا، ولا يتصدى لباطل.
للأسف.. كثير من الأحيان يساعد قطاع كبير منا في نجاح تلك الحالة بحسن نية تارة، ورغبة في المزاح تارة أخرى، وركوب دماغ ثالثة، لتستحيل مشاعرنا مع مرور الوقت وتراكم الزيف وإلف "الهيافة"؛ انقلابا على الفطرة وانتكاسا في طبائع الأحاسيس وحيز المشاعر وتراجعا في دنيا الناس.