الأسئلة
البديهية عند الحديث عن تحقيق نصرٍ ما هي: من الذي حقق
النصر؟ وما دلائله؟ وما
الشروط التي فرضها المنتصر على المهزوم؟ وما المزايا التي ترتبت على هذا النصر؟
قد أُتَهَم
بالخيانة لمجرد طرحي هذه الأسئلة، لكنني من جيلٍ لم يرَ من نصر أكتوبر (1973) إلا
مجموعة من "الأوبريتات" الغنائية المملة، والعروض العسكرية الرتيبة طوال
عهد مبارك، يمجد بعضها يوم النصر ويبالغ أغلبها في مدح الزعيم صاحب الضربة الجوية
التي فتحت باب الحرية.
لا شك
عندي أن المخلصين في جيش أكتوبر هم الغالبية الذين قدموا نفوسهم في ميدان الجهاد،
لكني ومع تطاول العهد، لا أجد أثرا لهذا النصر، كما لا أرى شواهد لما أوقعناه من هزيمة
بالعدو!
بعيدا
عن أوضاع السياسة، ومعاهدات السلام، وسيناء التي "رجعت تاني لينا ومصر اليوم
في عيد"، وبالسلام احنا بدينا بالسلام.. يا سلام! فإن أوضاع الناس بعد النصر
لم تتغير، ومعادلة الدولة القوية التي تتعافي بالانتصارات العسكرية لم تأتِ رغم
مرور نصف قرن على النصر.
المكتسبات المباشرة التي أحدثتها حرب رمضان/ أكتوبر، لم تكن من نصيب الناس، كما لم يعد على المجتمع ومقوماته المختلفة منها شيء، وإنما تركزت في يد المؤسسة العسكرية، التي حصلت على جميع المزايا والاستحقاقات المادية المباشرة وغير المباشرة، وهيمنت على الواقع المدني
المكتسبات
المباشرة التي أحدثتها حرب رمضان/ أكتوبر، لم تكن من نصيب الناس، كما لم يعد على
المجتمع ومقوماته المختلفة منها شيء، وإنما تركزت في يد المؤسسة العسكرية، التي حصلت
على جميع المزايا والاستحقاقات المادية المباشرة وغير المباشرة، وهيمنت على الواقع
المدني حكما، وسلطة، وسياسة، واقتصادا.
تلك المؤسسة
التي انشغلت بعد "ثورة الضباط الأحرار" وطوال عهد عبد الناصر في تعزيز وضعياتها
الرمزية، بالقدر الذي يمكنها من السيطرة على شعب حي، ومؤسسات دولة قوية، لم تعش
يوما بعيدا عن طبول الحرب أو بلا حرب، فخاضت معارك وهمية في تأميم الممتلكات،
وتكميم الأفواه، وحصار المؤسسات المدنية التي تميزت بها
مصر الملكية، فأنشأت هنا منبرا
سياسيا واحدا، وأنشأت هناك محاكم للغدر والثورة والشعب والطوارئ، وتفرغت لمحاكمة
"كل مصر"، فحبست ونكلت وقتلت خيرة رجالها، ونجحت في كل حروبها الوهمية
تلك باقتدار، فلما حانت لحظة معركة حقيقية مُنيت بهزيمة منكرة ونكسة مجللة بالعار.
عض
الشعب على جُرحه، وعادت به القوات المسلحة من هوة الهزيمة السحيقة بجيل أكتوبر "الخاطف"،
وتحقق النصر، لكن سرعان ما بادر أصحاب الحظوة والمصالح إلى إخفاء معالمه، وعزل
رجاله، وإطفاء روحه، وهدم أركانه، وعادت مصر لسابق عهدها البائس يهمَّش رجالها
جميعا ثم تتغنى بحكمة الزعيم ودهائه.
وعادت
القوات المسلحة لسابق عهدها في جني المزايا وصيد المكاسب، حقوق متزايدة في موازنات
الدولة، أموال بعيدة عن المحاسبة أو الرقابة، مشروعات تخوض تجاربها الخاصة في
أسواق المال والأعمال.
كان
التحول الأكبر والجائزة الكبرى بعد توقيع معاهدة السلام، حيث أصبح الطابع العام
للمزايا متعلقا بالأرض، حتى صار
الجيش الأصل في التملك، لأغراض الحفاظ على الدولة
والأرض والحدود، التي تحولت فيما بعد مدنا سياحية وشواطئ فيروزية، ومصانع ومنتجعات
ومزارع...
واستمرت
الخطوات الهادئة المطمئنة طوال عهد مبارك، لينضم لها الاستحواذ على الاقتصاد
الرئيسي وتنوع المشروعات الموازية والمتقاطعة مع مشروعات الدولة، والجمع بين
المزايا المتراكمة الممنوحة، والأولوية الأولى في الحصول على التحصين والإعفاءات،
وكنا كلما ابتعدنا عن زمن الانتصار، كلما ارتقى لمواطن المسئولية أجيال لم تشارك
في النصر، ولم تحضره، ولم تنجز فيه، لكنها تقتات على ذكراه، وتتوارث مكتسباته كابرا
عن كابر.
التاريخ يكتب النصر باسم الشعوب لا باسم الجيوش، والجغرافيا لا تمنح الأقاليم المحررة للجيوش وإنما للسكان، والكارثة المؤكدة أنه كلما استأثر الجيش بكتابة التاريخ باسمه، وسيطر على الجغرافيا وعدها من أملاكه، كلما فقد الوطن جزءا من ترابه الذي حرره بدماء أبنائه
في
زمننا البائس وبعد 2013 تم ابتلاع ما بقي من الدولة على وقع ذات أسطوانة الحرب،
والتحديات والتهديدات، ليخوض النظام حروبا ضد أبنائه المنهكين في محطات الباص
وطوابير العيش ودواوين الحكومة، متهما إياهم تارة بالإرهاب، وتارة أخرى بعدم الفهم
و"الهري"!
الحقيقة
الساطعة أن التاريخ يكتب النصر باسم الشعوب لا باسم الجيوش، والجغرافيا لا تمنح الأقاليم
المحررة للجيوش وإنما للسكان، والكارثة المؤكدة أنه كلما استأثر الجيش بكتابة
التاريخ باسمه، وسيطر على الجغرافيا وعدها من أملاكه، كلما فقد الوطن جزءا من
ترابه الذي حرره بدماء أبنائه، فتيران وصنافير لم نفقدها في حرب، ورفح لم يتم إخلاؤها
تجهيزا لعمليات عسكرية، ورأس الحكمة لم نفقدها في مفاوضات هزيمة.
مصر
انتصرت في السادس من أكتوبر بلا ريب، لكنها فقدت هذا النصر على وقع خطوات متثاقلة
كئيبة، قهرت جيل النصر، وبالغت في التنصل من صورة المنتصر، وفرطت في المكتسبات
الحقيقية من أجل الحصول على وهم الاستقرار والوطن الآمن، لتصحو بعد عقود على سخافات
"يعمل ايه التعليم في وطن ضايع"، و"أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق"،
و"صبح على مصر بجنيه".
نعم
تحقق نصر، ويحق لجيل أكتوبر "عسكرييه ومدنييه" الفخر بتحقيقه، لكن بعد
مرور عقود قضيناها في سلام دافئ مع عدو ما زال يتربص بنا الدوائر، لم يبق لنا أي
طيف من صورة النصر، ويحق لنا السؤال، نصر أكتوبر.. كان على من.. ولمن؟