"درع الربيع".. وقمة ملتهبة

تتسارع الأحداث، وتتسع المواجهات، وبات من المؤكد أن تركيا لم تعد تعول على الأطراف الدولية لاتخاذ مواقف حاسمة حيال الصراع الملتهب في شمال شرق سوريا، لذا اتخذت تركيا قرارها واختارت الاعتماد على نفسها في حل تلك الأزمة.

قبل يومين فقط من انتهاء المهلة التي حددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للنظام السوري للانسحاب من كل المناطق المحيطة بنقاط المراقبة التركية، جاء إعلان الكرملين عن لقاء بين الرئيسين التركي والروسي في الخامس من آذار/ مارس الجاري، رغم أن الكرملين سبق وأن نفى بشدة عقد هكذا لقاء، وفي الموعد الذي تحدث عنه أردوغان عقب قصف قوات النظام السوري رتلا عسكريا تركيا راح ضحيتة 33 شهيدا من الجنود الأتراك.

وشنّت المعارضة السورية هجوما بإسناد تركي في عملية عسكرية واسعة استعادت على إثرها سيطرتها على مدينة سراقب، محققة مكسبا عسكريا استراتيجيا مهما، لما لسراقب من أهمية. وتمكنت تلك العملية من فك الحصار عن جميع نقاط المراقبة التركية في محيط مدنية سراقب.

وفشلت كل محاولات النظام المدعوم بغارات جوية روسية كثيفة، هذا في الوقت الذي تحتدم فيه معركة سياسية بين تركيا وروسيا على مناطق النفوذ في سوريا بعد نفاد صبر الأتراك على إهمال روسيا لوجهة النظر التركية، لذلك قررت أنقره تحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض قبل الانتقال لمائدة المفاوضات التي تجيد فيها تركيا الرقص مع الثعبان الروسي من خلال اتباع ما يسمى بالسياسة الوقائية.

وقد استبق الرئيس التركي أردوغان هذه المفاوضات بتصريحات أكد فيها أن الوجود التركي في الأراضي السورية هو بموجب اتفاقية أضنه مع حكومة سوريا، مما يعني أن أردوغان يقول لبوتين إن اتفاقية سوتشي ليست المقياس الذي سيتم التفاوض عليه حاليا، وأن هناك تغييرا كبيرا لقاعدة التفاوض والاشتباك في الوقت ذاته.

كل هذا أتى بعد تجاهل بوتين عرض أردوغان بعقد لقاء بينهما خلال الأيام الأولى من شهر آذار/ مارس، فقال الكرملين وقتها إنه لا توجد أي خطط لدى الرئيس الروسي لهذا اللقاء، وتحديدا في الموعد الذي حدده الرئيس التركي، وها هو الدب الروسي يخضع لعقد اللقاء!

وهنا تقفز للذهن عدة تساؤلات منها: هل اتفاق سوتشي قد انهار؟

البعض يستبعد ذلك، والبعض يرى أن معركة سراقب وما بعدها أعادت ترسيم النفوذ وانتشار الطرفين التركي والروسي، مما يمكن لأنقرة تغيير قاعدة التفاوض لصالحها، فهل تقبل موسكو بذلك؟ الأمر مرهون بمدى قبولها بخسارة سراقب التي باتت حقيقة مؤكدة.

بعض المحللين رجحوا أن يكون هناك تصعيدا عسكريا خشنا قبل أي لقاء يُعقد بين الرئيسين، فبعد دقيقة واحدة من انتهاء المهلة التركية شنت المعارضة السورية المدعومة تركياً هجوما على عدة محاور أسفرت عن خسائر فادحة في صفوف الجيش السوري، مما يعني أن الحرب قد وقعت واتسعت رقعتها، وهو ما أكده وزير الدفاع التركي خلوصي أكار عندما أعلن عن بدء عملية تركية جديدة باسم "درع الربيع".

وقبل أن نستعرض نقاط القوة لدى الأتراك على مائدة التفاوض مع الروس، خاصة بعد فشل كل اللقاءات السابقة بين الطرفين مؤخرا على مستوى الخبراء من الجانبين، لا بد لنا أن نعرج على بعض الملامح التي تعطي إضاءات وإشارات بعينها قبل اللقاء الملتهب القادم.

أهم هذه الإشارات هي ما جاءت بخطاب الرئيس التركي الأخير الذي حمل رسائل لموسكو أكثر منها للنظام السوري، باعتبار أن الروس هم من يقفون وراء التصعيد الأخير شمالي سوريا. فقد طلب أردوغان من روسيا التنحي جانبا للتعامل مع قوات النظام السوري في إدلب ومحيطها (وهو ما حدث نسبيا)، وقال إننا لم نذهب لسوريا بدعوة من نظام الأسد، وإنما استجابة للشعب السوري، ولا نية لنا بالخروج ما دام شعبها يطالبنا بالبقاء، مؤكدا في الوقت ذاته أنه لا توجد لدى تركيا مطامع في نفط أو في أراضي سوريا (في إشارة لمطامع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية)، وإنما نريد ضمان أمن حدودنا عبر منطقة آمنة.

وأشار الرئيس أردوغان إلى أنه تم حبك الأزمة في إدلب للتضييق على تركيا، والسيناريو الذي نواجهه هدفه الأساسي تركيا وليس سوريا. ولم ينس أردوغان الإشارة أيضا لوجود مليون ونصف لاجئ على حدود بلاده بسبب هجمات روسيا والنظام الدموية، وكذلك الإشارة لمقتل أكثر من 2100 عنصر من قوات النظام والمليشيات الموالية له، وتدمير أكثر من 300 آلية وتدمير مستودع كيمائي للنظام السوري بفعل الطائرات التركية المسيرة، مفاجأة الحرب، وكذلك تدمير مطار النيرب، مع تأكيده على مواصلة الجهود لإنشاء منطقة آمنة فعليا على طول الحدود التركية السورية بعمق 30 كيلومترا.

حديث أردوغان هذا يؤكد أنه من يضع بنود التفاوض مع روسيا، وليس العكس.

لكن هنا يقفز سؤال جوهري: هل تمتلك تركيا فعليا أوراق ضغط استراتيجية تجبر بوتين على الانصياع لوجهة النظر التركية؟ الإجابة نعم، وأهم تلك الأوراق على النحو التالي:

1- الممرات المائية الدولية: ويأتي مضيقا البسفور والدردنيل اللذان تتحكم تركيا بهما كإحدى أهم تلك الأوراق، والتي تستطيع تركيا من خلالها أن تحجب أي دولة مطلة على البحر الأسود بما فيها روسيا من التواصل مع العالم خارجيا.

2- التصنيع الذاتي للسلاح: فتركيا ليست كباقي الدول النامية التي تستورد سلاحها من الخارج، لأنها قطعت باعا طويلا على صعيد الصناعات العسكرية وتمكنت من صناعة طائراتها ودباباتها وبنادقها الألية وصواريخها وطائراتها المسيرة بنفسها، حتى وإن استوردت بعض السلاح من الخارج فلا يمكن أن يكون ذلك ورقة ضغط عليها.

3- عضوية النيتو: تستطيع تركيا استثمار عضويتها بالنيتو لحماية نفسها ضد أي عدوان خارجي بموجب القانون الداخلي للنيتو.

4- الغاز: تربح روسيا سنويا مليارات الدولارات من تركيا، نتيجة شراء الأخيرة الغاز الروسي، وهذه ورقة ضغط بيد تركيا لا بيد روسيا، فهناك بدائل للغاز الروسي كغاز قطر، والجزائر، وباكستان وغيرها، وقطعا روسيا لا ترغب في خسارة السوق التركي، خاصة بعد مشروع السيل التركي مع روسيا.

5- الموقع الاستراتيجي: تركيا مركزا محوريا استراتيجيا يتوسط العالم بما يمنحها قدرة للتأثير والضغط (فتح الحدود البحرية والبرية أمام النازحين من لهيب وإجرام النظام السوري)، ولعب الدور الكبير والكثير في الملفات الدولية (ليبيا البحر المتوسط).

6- الجيش التركي: وهو ثاني أكبر الجيوش بحلف النيتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويزيد تعداده عن مليون عنصر مجهز بأحدث الأسلحة ويتلقى تدريبات قاسية تجعله من أشرس الجيوش عند مواجهته.

7- السياحة والتجارة: مخطئ من يظن أن السياحة ورقة ضغط لصالح روسيا، العكس هو الصحيح، لأن تركيا تستطيع من مواطنيها من الذهاب لروسيا بغرض السياحة، كما أن هناك الكثير من الصادرات التركية تذهب لروسيا وبإمكان تركيا إيقافها، حيث يبلغ التبادل التجاري بين البلدين ما يقارب 35 مليار دولار سنويا، وفي ظل العقوبات الاقتصادية الأمريكية على روسيا فإن ملف التجارة بالغ الحساسية والأهمية.

8- الملف الأوكراني والشيشاني وباقي دول البلقان، ولو دعمت تركيا المعارضة هناك، وكذلك حكومة أوكرانيا، لكان خطرا داهما على روسيا وأصبحت القواعد العسكرية الروسية بتلك البلدان في خطر .

وختاما هناك ما هو أهم من حيث العقيدة، حيث أن تركيا أصبحت غير تلك التي كانت منذ مئة عام؛ فتركيا اليوم تنفض عنها غبار الوصاية والحصار الذي طال لقرن كامل وباتت تستعيد وعيها وتاريخها الحقيقي، وما يمثله وجودها الحضاري لقرون في قيادة الأمة المسلمة، فقد أثبت الأمة التركية أنها عصية على التذويب والإقصاء، وقد بلغ هذا الوعي ذروته عندما ثارت الشعوب العربية على أنظمة القمع والوصاية، خصوصا وأن العرب يمثلون قرابة ربع الأمة المسلمة من حيث الثقل البشري والجيوسياسي، أو يزيدون، فهم يتمددون من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.

وهنا أدرك أردوغان بحاسته الحضارية والتاريخية أن هذا التغيير الحاسم يمكن أن يلتقي مع النهضة التركية، فالترك والعرب يبلغون قرابة نصف مليار وتسيطر مناطقهم على قلب العالم، وعليه فإن ما يحدث في تركيا إنما هو تحول حضاري حاسم له ما بعده من الفتح والنصر لهذه الأمة.