الحقيقة التي لا يمكن تزييفها أو طمسها مهما مر عليها الزمن، أن
الغرب لا ينظر إلى
تركيا إلا من خلال تاريخها الذي كا يمثل العامل الأول في رسم خريطة العالم لقرون عدة، ومهما حاول المزورون إهالة التراب على هذه الحقيقة، فإنها ستبقى شاهدة على التاريخ؛ لأن تركيا منذ الحقبة السلجوقية ثم الدولة العثمانية، كانت دائما هدفا للحملات الصليبية لإسقاطها، والسيطرة على كل مكان تمكن فيه الأتراك من رفع الأذان ورايات الإسلام، وخاصة في
أوروبا التي فتحها العثمانيون لإعلاء دين الله، وإقامة دولة العدل والمساواة والإخاء التي أمر بها الإسلام.
ولعل مقولة الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، في ذكرى التصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016؛ "إن الذين أرادو دفن تركيا في الظلام لم ينجحوا في ذلك، والله أوقعهم في الفخ الذي نصبوه"، ولأن تركيا تدرك جيدا حجم المخططات والمؤامرات التي تستهدفها، لذلك تجدها تتصدى لها جميعا، حيث لا يتوقف استهداف الدولة التركية على أوروبا وأمريكا فقط، بل وصل الأمر لتحالف شيطاني عربي تتزعمه الإمارات والسعودية ومصر، برعاية صهيونية وقحة، أيضا لا ننسى إيران الصفوية الحديثة فلها من عداوة التاريخ العثماني نصيب وأي نصيب.
وقد كان بإمكان تركيا كسب كثير من الصفقات لو أنها تماشت مع المخططات التي استهدفت تقسيم المقسم وتجزئة المجزّأ، وهي تلك التي سعى جورج بوش الابن إلى تنفيذها، لكن القيادة التركية الرشيدة اختارت خندق الدفاع عن عقيدة الأمة ومصالحها العليا والاستراتيجية وقضاياها العادلة، وأخذت القيادة التركية بقيادة أردوغان باستراتيجية إحياء أمة الترك التي كانت لأكثر من ألف عام في مقدمة صفوف الدفاع عن الإسلام والمسلمين.
ولفهم الأمور والأسباب والمحركات الأساسية للاستهداف الصليبي لتركيا، فإنه يتوجب علينا إدراك طبيعة المحركات التي تتحكم في المعادلات الاستراتيجية للنظام العالمي والإقليمي، فهناك من يعتقد بأن سبب العداوة لتركيا يرجع إلى التنافس على مكامن الغاز والبترول شرق البحر الأبيض المتوسط، بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، فإن الموقع الجيوسياسي العالمي لتركيا جعلها تؤثر في معادلات الصراع والتوازن الدولي والإقليمي بشكل كبير، وخاصة مع التحولات الهيكلية التي يشهدها النظام الدولي، وبالذات في ما يتعلق بمسألة انتقال الصراع من مناطق المركز إلى مناطق الأطراف، حيث بات الصراع السياسي والاقتصادي والتقني بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين هو الذي يرسم بقية ملفات الصراع في المقام الأول، في ظل ارتفاع وتيرة التهديد المتبادل بينهما، ومن ثم فإن بقية المواقع التي كانت تشغل أحد محركات الصراع ضعفت عما كانت عليه سابقا.
بالإضافة لذلك، سنجد أن أمريكا بالنظر لهزيمتها التاريخية في أفغانستان، جعلتها لا تستطيع معالجة كل أوضاع العالم منفردة، خاصة بعد أن فشلت في تحقيق استراتيجية نظام القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو الأمر الذي جعل من أمريكا غير قادرة على إدارة الملفات العالمية، كما كانت تفعل من قبل، فهي تتحرك على هوامش تلك الملفات، وأصبح شغلها الشاغل إيقاف الخطر الصيني، وبالكاد استطاعت اتخاذ بعض الخطوات في هذا الاتجاه، لذا تجد نفسها مضطرة للاستعانة ببعض القوى الدولية، وهذا انعكس بشكل مباشر على تركيا لوضعها المتميز والحساس.
المسار الآخر الذي أثر على المناخ الدولي العام، هو اندلاع الثورات العربية بالنظر لحساسية الموقع الجغرافي للمنطقة العربية والشرق الأوسط، بدءا من مضيق جبل طارق، والبسفور والدردنيل، وقناة السويس ثم باب المندب وهرمز. فهذه المناطق تعدّ قلب العالم، والشريان الرئيس الذي يربط العالم بعضه ببعض، وبالنظر للإرباك الحاصل في المنطقة العربية الذي ينعكس بلا شك على بقية العالم، وبالعودة لما بعد الحرب العالمية الثانية، نجد أن الدول الغربية التي انتصرت في تلك الحرب، وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا، هي التي تولت رسم المعادلات السياسية للشرق الأوسط، وفرضت هيمنتها المطلقة عليه، وخاصة سيطرتها على منابع الثروة التي تمثلت في حقول البترول في المنطقة، مثل بترول السعودية والجزيرة العربية وإيران والعراق وليبيا والجزائر ومصر، وهو ما أدى إلى تحكم تام في صناعة الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط ملكية كانت أو عسكرية، ومن ثم فإن الأنظمة في تلك المناطق سواء كانت ملكية أو عسكرية.
وقد يسأل سائل: ما علاقة ذلك كله بتركيا؟ نقول إنه عندما انفجرت الثورة العربية، ظهر العجز الأوروبي والأمريكي في السيطرة التي تعتمد على العملاء من الأنظمة العربية، واتضح مستوى هشاشة الأنظمة العربية الموالية للغرب وخوائها، في ظل عدم قدرة المنظومة الغربية على ملء هذا الفراغ الذي يتسع، وتزايد إمكانية وصول الثورة لمناطق أخرى كالجزائر، واستعادة الثورة في مصر، والغضب الشعبي السعودي الذي قد ينفجر في أي لحظة، مما جعل السيطرة الغربية تعاني في إدارة المنطقة.
وقد صب هذا المحرك في صالح تركيا بشكل كبير جدا، سواء بما فتح من فرص تاريخية للتغيير تقودها الشعوب، أو بالدور التركي الذي عززته تلك الثورات، يضاف إلى ذلك العداء القديم بين الغرب ونظام القيصرية في روسيا، الذي عاد مرة أخرى في عهد بوتين، والتهديد الذي فرضه على أوروبا من خلال الصواريخ النووية البالستية، والقدرات الفضائية، وسعي روسيا لإحياء نفوذها العالمي وفرضه مجددا، في ظل معاناة حلف الناتو من انكشاف وإرباك بين أعضائه، وانشغال الأمريكان بالخطر الصيني، وخاصة بعد ذهاب تركيا لمرحلة الاستقواء، بشرائها لمنظومة صواريخ أس400 الروسية، الأمر الذي جعل أمريكا تفرض بعض العقوبات ضد تركيا مؤخرا.
ومن ثم، فمحرك البترول التركي واكتشافات الغاز لا يمثل خطرا كبيرا، مقارنة بالدور الذي يمكن أن تؤديه تركيا في فرض التوازن على المعادلة الاستراتيجية في منطقة البحر الأسود وحوض قزوين والبحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يجعل الحكومات الاوروبية غير قادرة على الإجماع حول العقوبات ضد أنقرة. فتركيا قوة ذات وزن جيو سياسي في منطقة الشرق، وهي منطقة نفوذ تركية طبيعية منذ القدم، وهذا التمدد التركي لا تستطيع أوروبا وأمريكا تحجيمه بسبب الخطر الروسي والخطر الصيني، فالكل لديهم قناعة بأن من يستطيع الموازنة مع روسيا وتكوين حائط صد ضد روسيا هي تركيا.
هذه الأسباب مجتمعة، والقرب والتكامل بين الساحة التركية مع ساحات الثورة العربية، يجعل الأمور شديدة التعقيد بالنسبة لأمريكا والغرب، لذلك فهم يلعبون الآن على الهامش، لأنهم يعلمون علم اليقين أن قرار تركيا الذي يمكن أن تتخذه بين المحور الروسي الإيراني والمحور الأمريكي الأوروبي، هو الذي سوف يقرر نتيجة الصراع في المنطقة. ويدير أردوغان وفريقه اللعبة باقتدار تام في ظل ما حققه من قدرات جيوسياسية وعسكرية واقتصادية لتركيا، ونجاحه في تقديم نموذج الحرب الناجحة والخاطفة الذي قدمه في أذربيجان ضد أرمينيا وحلفائها.
وفي الختام، يستطيع المراقبون أن يلاحظوا أن سر النجاح الذي تقوده تركيا لا يرجع إلى الحسابات الجيوسياسية والتحولات الدولية فحسب، وإنما يرجع إلى الدور الذي يؤديه أردوغان في إحياء قدرات الأمة المسلمة، وإعادة وصل ما انقطع بين أجزائها خلال مائة عام، منذ أن غابت عن العالم، بعد أن كانت ملء السمع والبصر والتاريخ.