كل النخب السياسية منذ مطلع القرن العشرين تُجمع على أن الأمة العربية هي في ذيل الأمم في كل المجالات. هذا التوصيف لا يكاد يختلف عليه اثنان، والكل حاول البحث عن الخلاص والنهوض لكن هناك اختلافات وتباينات كبيرة في طريقة الإصلاح.
في الوقت الذي بدأت الدول في عصر ما بعد الاستقلال رأت الأنظمة التي حكمت دول "ما بعد الاستعمار" أن النهوض يكون في تأسيس الدول الوطنية، إلا أن الكثير من تلك الأنظمة سريعا ما غرقت في الفساد المالي لرخاوة التشريعات الناظمة لمفهوم الدولة الناشئة، وتصرفت تلك الزعامات بشكل استبدادي فصادرت حرية الناس وعطلت جميع مؤسسات الدولة لصالح سلطة الفرد الحاكم المطلقة، فغابت الدولة الوطنية لصالح الدولة المستبدة.
جاء الفكر القومي اليساري (ناصرية، بعثية... الخ) كردة فعل على حالة الدولة ما بعد الاستعمار، وكان هذا الفكر يشخص مرض الأمة بأن الأمة في حالة تفكك، وأنه لن يعود لها مجدها إلا من خلال العودة الى
الوحدة العربية وإزالة الدول الوطنية، وتشكيل اتحاد عربي يملك كل الإمكانيات والخيرات التي تؤهله أن يكون في مصاف الدول المتقدمة.
الفكر القومي العروبي استطاع الوصول للسلطة في أكبر ثلاث دول عربية (مصر والعراق وسوريا)، إلا أنه سرعان ما قام بتأسيس الدولة البوليسية ولم يستطع أن يقيم الوحدة فيما بين تلك الدول. والوحدة التي قامت بين مصر وسوريا لم تصمد إلا قليلا، وقدمت اختبارا عمليا ونموذجا حيا على فشل تلك المنظومة الفكرية.
كان من أبرز تجليات تلك المدرسة الفكرية هي عجزها عن الوحدة العربية، وتفسخ الدولة الوطنية من خلال اضطهاد الأعراق غير العربية مثل الكرد وغيرها من الأعراق، لترتفع أصوات تلك الأعراق بمحاولة تأسيس دول قومية لتلك الأجناس، كردة فعل على مشروع القومية العروبية. والنتيجة كانت لا وحدة عربية ولا نجاحا للدولة الوطنية.
تأسست الدول التي تؤمن بالفكر العروبي القومي على مفهوم الحزب الواحد الشمولي، واضطهاد كل الحركات السياسية التي تخالفها في الأيديولوجيا والتفكير، فأصبحنا أمام دول بوليسية أمنية قمعية مستبدة تضطهد الأعراق الأخرى من غير العرب وتهمشها، وتضطهد المخالفين لها في الأيديولوجيا أيضا من ذات العرق.
جاءت نكسة 1967 ليتلقى الفكر القومي نكسة كبيرة في المد الشعبي، ويبدأ صعود مد الإسلام السياسي الذي اتخذ من دماء الشهيد سيد قطب على مشانق القومية الناصرية رافعة كبيرة له في المد الشعبي.
جاء مد الإسلام السياسي محمولا على فكرة أن النهوض يكون من خلال محاولة استرجاع الإمبراطورية الإسلامية العظمى،. تبنى هذا الطرح حزب التحرير وجماعة الإخوان المسلمين، وبقيت الحركة السلفية تعتبر بوابة النهوض من خلال محاربة التصوف المقترنة بالخرافات والخزعبلات وتصحيح عقائد الناس.
عاش المد الإسلامي في فترة الثمانينيات والتسعينيات وحتى سنوات الربيع العربي مدا شعبيا عارما استطاع أن يُحكم السيطرة على النقابات المهنية والعمالية والاتحادات الطلابية، والمشاركة في البرلمانات بالقدر المحدود نتيجة لعمليات التزوير، حتى وصل للسلطة على 2012 في أكبر دولة عربية وإفشاله فيها، لتبدأ بعدها أسئلة مشروعة عن قدرة الإسلام السياسي على النهوض بالأمة بعد أكثر من تسعين عاما على تأسيسه، وأصبح الحديث يدور عن فكرة ما بعد الإسلام السياسي، خاصة أن بعض حركات الإسلام السياسي في المغرب العربي تحولت من الإسلام السياسي إلى الإسلامي الديمقراطي الذي يؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
مما لا شك فيه أن كلا من التوجه القومي العروبي والتوجه الإسلامي أحسن التوصيف، لكنه عجز كل العجز عن اجتراح الحلول في الوصول لكلمة السر في النهوض. هذا الإخفاق لا يعود إلى أسباب خارجية كما يحاولون توصيف وتبرير هذا الإخفاق، لكنه إخفاق يعود إلى أسباب داخلية نابعة من ذات الأفكار. فالتوجه العروبي القومي والتوجه الإسلامي السياسي يحمل بذور الفناء في داخله، فلا العرق والقومية أصبحت صالحة لبناء دولة حديثة، ولا الطائفة الدينية أو استرجاع نماذج الإمبراطوريات الدينية القديمة يستطيع بناء دولة ناهضة وحديثة.
من المفارقات التي تلفت الانتباه أنه في عشرينيات القرن الماضي استطاع مفكرو تلك الحقبة تشخيص الداء وتلمس طرق النهوض بشكل أكثر دقة، وهذا ما عبر عنه رفاعة الطهطاوي الذي رأى أنه يمكن أن ننهي تخلفنا ببناء الدولة الحديثة وفقا للنموذج الغربي سياسيا، مع الاحتفاظ بخصوصيتنا الدينية والثقافية. نبني دولة الحرية والديمقراطية والمواطنة والدولة الوطنية، فيما كان عبد الرحمن الكواكبي يضع يده على الجرح بشكل دقيق عندما وصف الاستبداد بأنه أبو العلل والأسقام السياسية والتخلف والنكوص. لكن هذه الطفرة في الطرح التي قادها الطهطاوي، والكواكبي، والأفغاني، ورشيد رضا، ومحمد عبده.. استطاع المد القومي بسطحية فكرة الوحدة أن يطمسها، وجاء المد الإسلامي المشبع بنظرية سيد قطب الإصلاحية الذي يحمل فكرة إحياء الإمبراطورية الإسلامية، ليخفي معالم هذه الطفرة الفكرية الإصلاحية التي لم يكتب لها الانتشار ولا الحياة.
أثبتت التجارب إخفاق المد القومي العروبي والمد الإسلامي في اجتراح حلول لحالة التخلف التي ضربت الأمة العربية، لكن بعد الربيع العربي بدأ يعود من جديد الفكر التقدمي المؤمن بالدولة الوطنية دولة المواطنة والعدالة والمساواة والدولة الديمقراطية، التي تحتكم الى سلطة الشعب في إدارة موارد الشعب من خلال الصندوق.. الدولة المتصالحة مع الحضارة الغربية في العلوم السياسية، الدولة التي تنبذ الاستبداد والسلطة المطلقة، الدولة القائمة على حكم القانون والمؤسسات، الدولة التي تحارب الفساد، الدولة التي تسعى للرفاه الاقتصادي وبناء الإنسان، فالإنسان هو رأس المال الرابح في بناء الحضارة.
تجارب الدول الحديثة ما بعد الحرب العالمية الثانية أثبتت أن اليابان الدولة التي ضربتها أمريكا بالقنابل النووية استطاعت تجاوز أزمتها ومحنتها وتصالحت مع الحضارة الغربية، ونجحت في بناء دولة وطنية متقدمة على غرار الدول الغربية الحديثة، فاحتكمت إلى سلطة الشعب وردة سلطة الشعب للشعب لتكون أول خطوة على طريق النهوض، فوصلت إلى كلمة السر في بداية النهوض.. طريق لم يؤثر عليه وجود أكثر من 45 ألف جندي أمريكي في أراضيها، ولا وجود لعدو خارجي تعلق عليه شماعة إخفاقها. وكذلك الأمر حصل مع كوريا الجنوبية المنفصلة عن كوريا الشمالية بعد حرب أهلية دامية انتهت في خمسينيات القرن الماضي.. استطاعت النهوض فقط بالديمقراطية والتصالح مع الحضارة الغربية الحديثة، ولم يؤثر عليها عدم وحدتها مع كوريا الشمالية ولا وجود قوات أجنبية على أراضيها، يبلغ عددها 25 ألف جندي أمريكي حتى الآن، لتكون دولة من أعظم اقتصاديات العالم الحديث، إذ تشكل أرباح شركة واحدة فيها أكبر من ميزانية بعض الدول العربية.
التجارب العملية في النهوض أثبتت أن غياب الوحدة على أساس الطائفة أو الوحدة على أساس العرق الواحد لا يمكن أن يشكل عائقا أمام بناء الدول الناهضة المتقدمة، وأن سر النهوض كأول خطوة يكمن فقط في بناء الإنسان ورد سلطة الشعب للشعب. ويمكن للوحدة بين الشعوب وفقا للنماذج الفيدرالية أو الكونفدرالية أو يمكن للانسجام الديني أو الطائفي أن يكون عامل مساعدة ومعززا في نهضة الأمم إن لم تقم على نبذ الآخر المختلف في الدين والعرق، لكن الوحدة على أساس الطائفة أو العرق لا تصلح كوصفة متكاملة بمفردها للخروج من حالة التخلف والنكوص التي تعيشها الأمة ما دامت سلطة الشعب بغير يد الشعب.
لكن هناك أسئلة لا زالت برسم الإجابة:
ألا يمكن للدولة المستبدة الشمولية أن تبني حضارة ومدنية وقوة عسكرية، كما هو الحال في الصين وروسيا وكوريا الشمالية؟
وهل فعليا الديمقراطية وحدها قادرة على بناء الدولة الحديثة وتحقيق النهوض والرفاه؟
هذا ما سوف نناقشه في المقالين القادمين.