أعطت الانتخابات التشريعية لسنة 2019 نتائجها الأولية، والقراءات كثيرة ومتنوعة؛ يغلب عليها التشاؤم من مصير مجهول، حيث يؤلف الناس حكومات ولا يجدون لها سندا برلمانيا لفرط التشتت الذي أفرزه الصندوق. لن تذهب هذه الورقة إلى توقعات بخصوص تشكيل الحكومة، خصوصا أن الدور الثاني من الرئاسية لم يحسم بعد، وهو الذي سيكون له تأثير على المواقف والتحالفات. لكن هناك ملاحظات أولية بخصوص المشهد السياسي العام، وجب الوقوف عندها.
المنظومة لم تصمد ولكن لم تندثر
يمكن الحديث عن هجرة انتخابية داخلية لمكونات المنظومة، فقد خسر حزب النداء كل رصيده، لكن لصالح شقوق خرجت منه. ويعزى ذلك إلى سلوك ابن الرئيس الذي فكك الحزب قبل أن يهرب إلى فرنسا. وقد استقطب حزب القروي (قلب تونس) حجما كبيرا منها، بينما تقدمت عبير موسي بأصوات أشد مكونات المنظومة تطرفا. وفاز الشاهد (رئيس الحكومة الحالي) بكتلة تصويت تعتبر الأقل تطرفا، وربما الأقرب إلى روح الديمقراطية الشحيحة داخل الحزب القديم، لذلك نرى أن قاعدة التصويت الندائية (التجمعية في الأصل) لم تندثر، وإنما هاجرت إلى مواقع مشابهة، وهي لا تزال ضمن مكونات المشهد، ولها حظوظ كبيرة في تشكيل الحكومة أو تعطيلها إذا لم تتدبر حلفا مع النهضة.
انقلبت الموازين لصالح النهضة مؤقتا، ولكن ما زالت هناك طريق طويلة ومعارك كثيرة قبل أن نتحدث عن تلاشي فلول التجمع (حزب ابن علي). المتفائلون يرون المنظومة لاجئة تبحث عن مقر أخير ويصفقون لانتصارهم، ولكن التريث في التحليل ضروري. فهذه الهجرة ليست هروبا، ونميل إلى رؤيتها إعادة ترتيب صفوف، خاصة من موقع المعارضة.
ما زالت هناك طريق طويلة ومعارك كثيرة قبل أن نتحدث عن تلاشي فلول التجمع (حزب ابن علي). المتفائلون يرون المنظومة لاجئة تبحث عن مقر أخير ويصفقون لانتصارهم
معطى مهم كشفته انتخابات 2019؛ هو موت الأحزاب التي يمكن وصفها بأحزاب المراحل الانتقالية، وهي أحزاب ظهرت بسرعة وبأرصدة مالية مشبوهة في الغالب.. خدعت الناخبين بعض الوقت، ولكنها لم تفلح في خداعهم كل الوقت. لذلك حسم الناخب أمرها، فانتهت حيث ظهرت بلا أي تأثير على المشهد؛ اللهم إلا ما غنمه أفرادها من منافع من النفوذ الاعتباري للنائب. وفي مقدمة هؤلاء حزب سليم الرياحي، وحزب آفاق تونس، وحزب مهدي جمعة.. ومشروع تونس وتيار المحبة (العريضة الشعبية سابقا).. أين ذهبت قاعدتهم الناخبة؟ لا يمكن توقع حركة أشخاص دخلوا السياسة بحثا عن مغنم سريع؛ لا شك أنهم اتبعوا طرقا أخرى لمغنم آخر، وسنجد منهم في البرلمان، ولكن بأسماء جديدة لا علاقة لها بأحزاب كانوا نوابها.
هذه الهجرات السريعة تفسد كل علم الاجتماع الانتخابي، ولكنها رغم ذلك تكشف هشاشة الناخب وسهولة خداعه في تجربة ديمقراطية وليدة. لقد آذنت انتخابات 2019 بنهايتها، وبدأ التصويت على البرامج. إنها مرحلة نضج ومرحلة غربلة حين غثاء المراحل الانتقالية يذهب جفاء.
نهاية اليسار الراديكالي
خسرت الجبهة الشعبية اليسارية كل نوابها (15)، ولن تكون ممثلة في برلمان (2019-2024)، ولا ندري كم عليها أن تبذل من جهد فكري وسياسي لتعود إلى البرلمان. لماذا خسرت نوابها؟
أولا، لأن مكوناتها تشتتت واختلفت إلى فرقتين اختصمتا في الرئاسية، إذ كان لها مرشحان وأخذ من قاعدتها مرشح يساري آخر (هو عبيد البريكي)، بينما هاجرت بعض مكوناتها إلى حزب التيار الديمقراطي، وصوت جزء منها لقوائم مستقلة تدعمها النقابة.
آذنت انتخابات 2019 بنهاية اليسار الراديكالي الذي يمكن اعتباره ثاني تيار سياسي معارض في الدولة المستقلة بعد اليوسفية (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي اغتاله بورقيبة)
آذنت انتخابات 2019 بنهاية اليسار الراديكالي الذي يمكن اعتباره ثاني تيار سياسي معارض في الدولة المستقلة بعد اليوسفية (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي اغتاله بورقيبة). يتحدث كثيرون عن ضرورة مراجعة الخطاب والتنظيم ودور الزعامات، ولكن لا نرى ذلك في الأفق القريب، فتكلس القيادات السياسية داء عضال. لكن أصوات يسارية أخرى برزت وننتظر سماعها لنرى إن كان هناك احتمال تجدد في موقع آخر بأصوات أخرى. لكن يظل هناك سؤال آخر لا نجد إجابته بعد: هل سينعكس تشتت الجبهة وخسارتها في الانتخابات على دورها ومكانتها في النقابة، أداتها السياسية الأولى قبل الحزب؟
بروز قوى جديدة
المشهد يتغير في تونس.. قوى وزعامات تندثر، وأخرى تسقط نهائيا، وأخرى تبرز، ولكن الخلاص لا يزال بعيدا. الناخب التونسي أحدث مفاجآت كثيرة، منها برلمان غير قادر على الفعل، وحكومات غير قابلة للبقاء، وزعامات جديدة تحمل عاهات مزمنة ذات جوهر استئصالي
رغم المناورات.. الديمقراطية التونسية بخير
لا ديمقراطية في تونس دون النهضة