ثمة حراك جماهيري عظيم يشهده العراق، وهو البلد الذي كان يظن الكثيرون أنه بعيد عن الالتحاق بمسيرة الانتفاضات الشعبية العربية، ولكن الأحداث تظهر يوما بعد يوم أن "الصراع" بين الشعوب وبين الأقليات الحاكمة منذ دولة "الاستقلال" في المنطقة لن يتوقف لا زمانيا ولا مكانيا، حتى حسم الصراع لمصلحة أحد الطرفين.
تعاملت حكومة "المنطقة الخضراء"، التي جمعت للمفارقة بين التبعية لطهران وواشنطن! مع الحراك بدموية قاتلة "تليق" بحكومة مليشيات مثلها، ما أدى إلى سقوط العشرات من الشهداء والآلاف من الجرحى، ولكنها فشلت حتى الآن بإسكات الجماهير التي فاض الكيل بها من ممارسات هذه الحكومة.
وتحمل الانتفاضة الشعبية العراقية عدة رسائل للداخل والخارج، هذه أهمها:
أولا: أسقطت الانتفاضة الحالية البعد الطائفي والمناطقي الذي كان يسيطر على الحراكات في السنوات السابقة. لم يكن الحراك هذه المرة "جنوبيا شيعيا"، ولا "أنباريا سنيا" ولا مرتبطا بفصيل واحد مثل احتجاجات أنصار الصدر عام 2016، بل هو حراك عابر للمدن وللطوائف، وخارج عن الارتباطات الحزبية والمليشياوية. ويرسل الحراك من هذا النوع رسالة واضحة للحكومة، بأنها لن تتمكن من عزله باتهامه بالطائفية أو الحزبية، كما أنها لن تتمكن من القضاء عليه من خلال ادعائها تمثيل طائفة معينة ضد الحراك.
ثانيا: كان المحرك الأساسي للحراك الجديد هو الفساد، بعد أن أصاب الإفقار والتهميش جميع العراقيين باستثناء الأقلية المستفيدة من الحكم، وهذا يوجه رسالة للحكومة وللمليشيات التابعة والحامية لها بأن الشعب لم يعد معنيا بالصراعات السياسية المصطنعة، خصوصا مع انتهاء الحرب على تنظيم الدولة وسيطرة الحكومة على كافة أراضي الجمهورية، وبالتالي فإن محاولات الحكومة ومليشياتها تحويل النقاش للصراع مع "عدو خارجي" لم يعد ممكنا، بل هي الآن في مواجهة الشعب وجها لوجه، ولا يمكن لها أن تحل أزمتها إلا بالاستجابة للجماهير وعزل نفسها.
ثالثا: تستطيع الديمقراطيات الحقيقية حل أزماتها المختلفة عبر آليات العمل الديمقراطي، سواء كانت هذه الأزمات مرتبطة بالفساد أو الركود الاقتصادي أو الصراعات السياسية بمختلف أنواعها، وذلك لأن الديمقراطية تضع أسسا دستورية لحل أي استعصاء سياسي دون الحاجة للجوء للشارع إلا في حال الدعوة لاستفتاء أو انتخابات مبكرة، أما في الأنظمة الديكتاتورية الأمنية التي تصنع "ديكورا" ديمقراطيا فإنها تفشل في حل الأزمات الكبرى، ولذلك فإن الشارع يضطر لأخذ زمام المبادرة وحل مشكلاته بنفسه.
إن الانتفاضة العراقية المجيدة ترسل رسالة واضحة للمشاركين في العملية السياسية بأنهم فشلوا في بناء حكم ديمقراطي رشيد، وأنهم لا يمكن أن يستمروا بنفس مسار العملية السياسية التي فشلت منذ الاحتلال بتحقيق العدالة والكرامة للشعب العراقي.
ولذلك فإن هذا الشعب خرج للشارع ليحل أزماته عبر الاحتجاج، حتى سقوط رموز العملية السياسية الفاشلة
رابعا: رفعت الانتفاضة الشعبية العراقية شعارات تندد بإيران وتطالبها بالخروج من العراق وإنهاء تدخلاتها ونفوذها، وهو ما دفع طهران لاتهام المتظاهرين بالتبعية لأجندات خارجية، وهي ذات التهمة السخيفة التي رفعتها كل الأنظمة في المنطقة في وجه من يثور بوجهها أو ضد ظلم حلفائها. إن الرسالة التي تبعثها هذه الشعارات للخارج هي أن الشعب العراقي يطالب باستقلال الحكم في بلاده وليس فقط بمحاربة الفساد، لأن الدعم والنفوذ الخارجي هو من يحمي فساد الحكومات المتعاقبة ويغطي على فشلها السياسي والاقتصادي.
وعلى الرغم من أن الشعارات مرفوعة ضد إيران حصريا بسبب نفوذها الكبير ودورها السلبي في العراق، إلا أنها تعني في ما تعني أن الجيل الجديد من العراقيين لن يرضى بأي نفوذ خارجي في بلاده، سواء كان من واشنطن أو طهران أو غيرهما، ولهذا فإن أسوأ ما يمكن أن تفعله دول عربية معادية أو منافسة لطهران هو إعلان دعمها للحراك، لأن هذا الإعلان أولا ليس سوى مجرد خطابات إعلامية، ولأنه سيواجه ثانيا من قبل الجماهير التي سئمت تدخلات الخارج، ولأنه ثالثا سيمثل أداة في أيدي حكومة المنطقة الخضراء وطهران لاتهام الحراك بالتبعية للخارج.
خامسا: إن الرسالة الأهم للحراك العراقي هي للدول التي انغمست بمحاربة "الربيع العربي" ودعمت "الثورة المضادة"، إذ إن انتفاضة الشعب العراقي تأتي ضمن الحركة الشعبية المستمرة في العالم العربي ضد أنظمة الحكم القديمة، وهي تمثل حلقة جديدة من حلقات الصراع بين الثورات الشعبية و"الثورة المضادة".
قد يقول البعض إن الدول التي وقفت في وجه الثورات الشعبية العربية هي مع إسقاط حكومة العراق لأنها حليفة لطهران، ولأن هزيمتها تشكل انتصارا لهذه الدول في صراعها الطويل مع النفوذ الإيراني، ولكن التجربة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات التسع الماضية أثبتت أن لا طهران ولا الدول العربية المعادية لها تريد نجاح أي ثورة شعبية عربية.
لأن هذا النجاح يمثل هزيمة لنموذج إيران الذي يدعي التفرد بالثورة والمقاومة من جهة، ويمثل هزيمة للمنظومة القديمة الحاكمة للمنطقة من جهة أخرى
تختفي الفروقات بين إيران وخصومها في هذا المضمار، لأن كليهما يريد بقاء الوضع القائم كما هو مع تغييرات طفيفة، أما نجاح الثورات الشعبية فهو سيشكل إلهاما للشعب الإيراني والشعوب العربية على حد سواء للتحرك ضد الفساد والظلم والقمع، وهو ما تسعى طهران وخصومها بشكل مثير للسخرية لمنعه!
قد تتمكن الانتفاضة العراقية المجيدة من تحقيق أهدافها، وهذا ما نتمناه، وقد تتمكن حكومة "المنطقة الخضراء" من القضاء عليها بالقوة والدم والشعارات الطائفية، ولكن الشعب العراقي بعث رسالته الأبلغ من هذا الحراك، وهي أن قطار التغيير الذي بدأ من تونس في ديسمبر 2010 لن يتوقف حتى يمر في كل محطة من العواصم العربية، وحتى تحقق الشعوب العربية ما تستحقه من حرية وعدالة وكرامة.
الثورة المضادة تتراجع.. فهل تهزمها مصر بالضربة القاضية؟
إيران: عواقب المبالغة في التذاكي والإنكار