كرر البيان الختامي لمحادثات أستانا (نور سلطان باسمها الجديد) البيانات الختامية للجولات السابقة؛ من تأكيد الالتزام بوحدة أراضي
سوريا وسيادتها، إلى مكافحة المنظمات الإرهابية، إلى غيرها من البنود؛ المادة الوحيدة المستجدة كانت التأكيد على "ضرورة إقرار الهدنة على الأرض في
إدلب وتطبيق كافة الاتفاقات السابقة".
في الأصل، فإن كل قرار يحقن الدماء تطور إيجابي، إلا أن هذا القرار الأخير يفتقر لمقومات الصمود على المدى المتوسط (وليس فقط على المدى البعيد)، بالنظر لأسبابه والسياق الذي أتى به، وكذلك مواقف مختلف الأطراف ذات العلاقة.
في المقام الأول، أتى هذا الاتفاق في هذا التوقيت تحديداً لأسباب رئيسة ثلاثة، هي:
الأول، عجز النظام وروسيا عن تغيير الواقع الميداني في إدلب بشكل ملموس، رغم القصف المستمر منذ أشهر، والذي استهدف البنية التحتية والحاضنة الشعبية للمعارضة أكثر مما استهدف تشكيلاتها العسكرية؛ فضلاً عن هيئة تحرير الشام.
الثاني، استجابة روسية للتحفظات التركية، خصوصاً وأن نقاط المراقبة التابعة لها تعرضت لقصف النظام أكثر من مرة ما استدعى رداً منها، فضلاً عن صفقة "إس400" والتوتر التركي- الأمريكي الذي تعتبره موسكو فرصة لها.
الثالث، محاولة لإنقاذ محادثات أستانا، إذ كانت المعارضة قد هددت بعدم المشاركة؛ ما كان سينزع عن الجولة الأخيرة حتى الصفة البروتوكولية القائمة مؤخراً.
وبالنظر لهذه الأسباب، يتبدى بوضوح أنه لا نية لدى النظام أو موسكو بهدنة أو وقف إطلاق نار، وإنما مجرد استراحة قبل استكمال العمليات العسكرية، وهو ما تؤكده التصريحات التي صدرت عن كليهما والتي اعتبرت الاتفاق "مشروطاً".
والشرط هنا، حسب متحدث عسكري سوري وآخر روسي لوسائل إعلام الطرفين، هو "عمل
تركيا على تطبيق اتفاق سوتشي" بخصوص إدلب، لا سيما ما بتعلق بهيئة تحرير الشام وباقي المنظمات "الراديكالية"، وهو ما يشير إلى أن القرار رجوع للخلف لا تقدم للأمام، إذ يعيد الأمور إلى المربع الأول.
ذلك أنه رغم توافق تركيا وروسيا على مذكرة سوتشي في أيلول/سبتمبر الفائت، إلا أن الطرفين لم يتفقا يوماً على تفسيره، فضلاً على توصيف وتصنيف المنظمات المسلحة في المنطقة. فالواقع يقول إن كل فصائل المعارضة المسلحة هي بالنسبة لموسكو منظمات إرهابية أو راديكالية بالحد الأدنى؛ تستوجب المواجهة والمكافحة، وهو ما لا تتفق عليه أنقرة بطبيعة الحال. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الهدنة المعلنة أكثر هشاشة من أي اتفاق سابق، إذ ما زالت ذريعة هيئة تحرير الشام قائمة بالنسبة لدمشق وموسكو، وهي الذريعة التي لا يمكن حلها خلال أسابيع فضلاً عن أيام.
لقد بذلت أنقرة على مدى الأشهر الكثيرة الماضية جهوداً ملحوظة لتجنيب إدلب مصير حلب وشقيقاتها، من نشر قواتها ودعم المعارضة بأسلحة متقدمة أحياناً، إلى توحيدها وتمييزها عن هيئة تحرير الشام تحت مسمى "الجبهة الوطنية للتحرير"، إلى العمل على حل هيئة تحرير الشام أو تفكيكها، إلى الجهود الدبلوماسية المستمرة مع الروس. لكن جهودها لم تصل بالتأكيد إلى الأهداف المرجوة منها، ليس في الإطار الزمني المتاح وليس وفق أولويات أنقرة وكثرة الملفات الضاغة عليها، فضلاً عن غياب العوامل المساعدة من الأطراف الأخرى وخصوصاً
روسيا.
وفق هذه المعطيات، فموقف تركيا دقيق وحرج إلى حد ما، إذ هي بين خيارات كلها صعبة: خسارة إدلب لصالح النظام، أو الدخول في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع روسيا، أو التورط بصدام مع هيئة تحرير الشام، أو استمرار حالة الاستنزاف في إدلب، أو غيرها من السيناريوهات.
ما زالت أنقرة تراهن على الوقت الذي لا يريد النظام ومن خلفه روسيا منحه لها، إذ يبدُوَان في عجلة من أمرهما لإعلان عدم إيفائها بمسؤولياتها المترتبة عليها وفق مذكرة سوتشي.
لكن ذلك لا يعني كذلك أن عملية عسكرية واسعة للنظام في إدلب ستكون نزهة أو مغامرة مضمونة النتائج. فقد أظهرت أنقرة سابقاً مدى جديتها في رفض تلك العملية من خلال إرسالها تعزيزات لنقاط مراقبتها والرد على قصف النظام، فضلاً عن تسليح المعارضة. ولذلك، فإن استمرارها في مراقبة الوضع في إدلب رغم خروقات النظام، واكتفائها بالحديث مع موسكو دون تحرك ميداني واسع؛ ينبع فيما يبدو من اطمئنانها (حالياً ومرحلياً) إلى ثبات الأوضاع الميدانية في إدلب وصمود المعارضة.
ولذا، فالأوضاع في إدلب مرشحة للعودة إلى الحلقة المفرغة التي كانت عليها: قصف من النظام وروسيا، وصمود من المعارضة، وضغط على الحاضنة الشعبية، واستهداف للبنى التحتية ومقومات الصمود، واستمرار سيطرة هيئة تحرير الشام، في انتظار تغير جذري غير متوقع حالياً على المستوى السياسي أو العسكري.