ثمة دلالة مهمة ذات أبعاد استراتيجية في صفقة "S400" الروسية؛ أبعد من مجرد حاجة تركيا لها. صحيح أن تركيا تحتاج منظومة دفاعية، وأنها بدأت أولا في البحث عن بدائل من داخل حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي له، وأنها لم تطرق باب الصين ثم روسيا إلا بعد مماطلة حلفائها الغربيين لها، وأنها كذلك لا تستعدي الناتو ولم تغير بوصلة سياستها الخارجية تماما حتى اللحظة، وأنها ما زالت منفتحة على شراء صواريخ باتريوت كذلك، لكن كل هذا لا ينفي دلالة مهمة بين يدي الصفقة.
ذلك أن مجرد شراء أنقرة للمنظومة الدفاعية الروسية، التي تعمل (كباقي الأسلحة من هذا النوع) وفق تصنيف الأهداف بين صديقة وعدوة، يعني أنها تقبل ضمنا أن هناك أخطارا ومهددات غربية لها. هذا الأمر الذي لم يكن موجودا طوال فترة الحرب الباردة وما بعدها حتى اليوم، يكفي وحده للتدليل على مدى تراجع العلاقات التركية- الأمريكية نوعا، وليس فقط كمّا. بمعنى أن "الشراكة الاستراتيجية" المعلنة بين البلدين منذ 1995 ليست التوصيف الصحيح للعلاقة الثنائية اليوم، وهو أمر تثبته العقوبات الأمريكية على تركيا العام الفائت، ودعوات الكونغرس اليوم لتطبيق قانون "معاقبة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات" (CAATSA كاتسا) عليها.
بدايةُ العقوبات الأمريكية كانت تعليق مشاركة أنقرة في مشروع مقاتلات "F35"، كما كان متوقعا، وهو أمر لم يستحث ردا حادا من الأخيرة، بينما ما زال ترامب يناقش مع إدارته ومع الكونغرس فرض عقوبات إضافية ضمن إطار قانون كاتسا. لكن أنقرة تملك بعض أوراق القوة التي تدفع واشنطن للتفكير أكثر قبل فرض أي عقوبات إضافية، بل ربما تجنبها المزيد من العقوبات، وأهمها:
ترامب يناقش مع إدارته ومع الكونغرس فرض عقوبات إضافية ضمن إطار قانون كاتسا. لكن أنقرة تملك بعض أوراق القوة التي تدفع واشنطن للتفكير أكثر قبل فرض أي عقوبات إضافية، بل ربما تجنبها المزيد من العقوبات
الخشية الأمريكية من خسارة تركيا تماما ودفعها للحضن الروسي، ونقل التفاهمات معها إلى حالة أكثر تقاربا وأرفع مستوى، حيث إن إبعاد تركيا عن مشروع "F35" سيدفعها للبحث عن بدائل أخرى
رابعا، حاجة الولايات المتحدة لدعم تركيا أو على الأقل تحييدها بين يدي تصعيدها ضد إيران، إذ سيكون من الصعب عليها إدارة أزمة مع طهران وأنقرة في آنٍ معا.
إن هذه الأسباب وغيرها، هي ما يدفع ترامب لبعض التصريحات الإيجابية أو الحيادية بخصوص تركيا، وهي ما يؤخر فرض العقوبات الأمريكية عليها. لكن ذلك ليس أمرا مقطوعا به، فليست كل القرارات السياسية منطقية وعقلانية، كما أن المؤسسات الأمريكية، وخصوصا الكونغرس والبنتاغون، لم يقولا كلمتهما النهائية بعد.