لم يجد التحالف الإماراتي السعودي، الذي يشن حربا مدمرة على اليمن منذ سنوات، بداعي "استعادة الشرعية" هناك، بدّاً من الاعتراف باستهداف مقذوفات "الحوثي" لمطار أبها، وإن اختلف معه في تحديد الهدف بين برج المراقبة أو صالة المسافرين. يأتي هذا الاعتراف في ظل المنحى السعودي الجديد الذي يحول أي هجوم تتعرض له منشآنه العسكرية أو الحيوية إلى مناسبة لاستدرار التعاطف الإقليمي والدولي، بعد انكشاف "أكاذيبه" المتواصلة التي نفى من خلالها مرارا نجاح الطائرات المسيرة البدائية الحوثية من الوصول إلى أهدافها في العمقين السعودي والإماراتي.
لم يعد للكذب من منفعة للتحالف، بعد أن فضحته صور مسربة من داخل المنشآت المستهدفة التقطتها كاميرات أو أقمار صناعية. حبل
الكذب قصير، كما يقول المثل العربي، لكنه طال، ويسعى كثيرون لإطالته ما أمكنهم على طول جغرافيا تدخلات رعاة "
الثورة المضادة"؛ في مختلف البلدان العربية التي خرج مواطنوها طمعا في الحرية والعدالة والتغيير.
في
السودان، وبعد زيارات "نوعية" إلى مكة والرياض وأبو ظبي والقاهرة، قرر العسكر فض اعتصام دام شهرين كاملين، قبالة مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في العاصمة الخرطوم. وبالرغم من المشاهد "المروعة" التي وثقت لجحافل القوات المسلحة، وهي تقتل وتسحل وتضرب المتظاهرين الفارين من الهجمة الدموية التي لم تسلم منها حتى هواتف كانت توثق للجريمة، لم يجد المجلس العسكري السوداني غير نفي مسؤوليته عن الفض، والحديث عن خيام لا تزال منصوبة، وميدان لا يزال مفتوحا للراغبين في الاعتصام فيه. كولومبيا كانت الهدف حسب العسكر، باعتبارها "بؤرة فساد وممارسات سلبية تتنافى وسلوك المجتمع السوداني". فات العسكر أن كولومبيا دولة ذات سيادة؛ كان الخارجون عن القانون يصولون ويجولون فيها تحت مرأى ومسمع ضباط القيادة العامة، وهم جيران منذ زمن. ولأن فشل الأدوات الإعلامية للدول الكفيلة لفض الاعتصامات لم يعد بحاجة إلى دليل، فقد اضطر شمس الدين الكياشي خانعا للتواصل عبر شاشة قناة الجزيرة لنشر أكاذيبه، طمعا في مصداقية القناة، وهي التي أغلق مجلسه مكتبها وسحب تراخيص مراسليها بدعوى "عدم الحيادية" في نقل الأحداث.
لقد كان إغلاق مكتب الجزيرة إيذانا بعملية الفض القادمة، والرغبة في التعتيم عليها. لكن انفضاح وحشية الهجوم نقلت المجلس العسكري، تأسيا بداعميه، إلى تبني لعبة الإنكار واللعب على الكلمات، وبعدها أرقام القتلى، بعد ضغوطات دولية قد لا تكون إلا فصلا من فصول الخديعة الكبرى، كما تبين من أحداث سابقة، ابتدأ الرد عليها ببيانات استنكار، فتجميد عضوية في منظمات إقليمية، قبل أن يتحول مقترفوها إلى حلفاء "استراتيجيين" يفتح لهم الأبواب مشرعة، وتأتي إليهم المناصب زاحفة لدرجة رئاسة الاتحاد الأفريقي "الرافض للانقلابيين".
عندما انقلب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي، كان التبرير الذي ساقه السيسي وحواريوه، والطامعون في سلطة تأتيهم بلا انتخابات، أن لا طمع للقوات المسلحة في حكم
مصر، وأن "شرف حماية إرادة الناس وحريتها في اختيار من تشاء أعز وأرف عندي (السيسي) من حكم مصر". كان ذاك الوعد الكاذب الذي تلته سلسلة أكاذيب صارت وجبة يومية تقتات منها الأذرع الإعلامية للنظام العسكري، وتروجها على أنها إنجازات وحقائق لا يرقى الشك إليها، ولا إلى من تصدر عنه. وبين وعود التنمية وخفض الأسعار ومكافحة الفساد واجتثات الإرهاب، تناسلت الأكاذيب، وضاعت الحقوق وأهدرت المقدرات، وتم التفريط في العرض والأرض.
لا يختلف كراس "الانقلاب" في الخرطوم عما سواه من بلاد الردة، فقد كان عوف بن عوف أول "المبشرين" باجتثات النظام, وعودة أبناء سوار الذهب لإنقاذ السودان من "الإنقاذ"، وبعده ظهر عبد الفتاح السوداني، ليعلن أن الجيش غير طامح في سلطة، قبل أن تفضحه تحيته العسكرية لعبد الفتاح المصري، ومعه حميدتي لاعبا أساسيا في التوجه الجديد، بعد أن صال وجال في دارفور، ارتكابا لفظائع ترقى لجرائم ضد الإنسانية؛ حوكم بها رأس النظام "المجتث والمتحفظ عليه في مكان آمن" بعيدا عن المحكمة الجنائية الدولية.
استحضار سوار الذهب لم يكن غير محاولة أولية للتضليل؛ لم تصمد كثيرا أمام الواقع الذي يجعل توجيه العسكر لبنادقهم في اتجاه الداخل أمرا يسيرا، في مواجهة عجز تام عن صد العدو الخارجي. في مثل هذه الأيام من العام 1967، وبينما كان المجندون المصريون يقتلون ويأسرون، لم تجد أبواق النظام الدعائية غير بيانات إنشائية تدعي إسقاط طائرات العدو أسرابا. الحقيقة أن سلاح الوطن كان معظمه موجها لتعذيب وقتل الأصوات المخالفة في السجون والمعتقلات.
مسيلمة ليس مجرد اسم في التاريخ الإسلامي سعى المؤرخون لتشويهه عمدا، دفاعا عن الإسلام كما يظنون، بل هو شخصية دائمة الحضور ومستمرة معنا في الزمان والمكان. الجديد أن الجهر بتعظيم مسيلمة صار أمرا مباحا، يتم جهارا نهارا في الشاشات وعلى التلفزيونات. سلطان الموسى، ادعى، عن حق أُريد به باطل، أن مسيلمة "شخصية عظيمة"، ولم يكن يوما مهرجا أو تافها بالقدر الذي يظهر له أتباع، وهو المنقول عنه قوله "الفيل له خرطوم طويل وذيل قصير. ويا ضفدع نقي ما تنقين". فات الموسى أن له أتباعا، في عصر التكنولوجيا وتوفر المعلومة على وسائل التواصل الاجتماعي، يفوقون المليون والنصف، ومعه ملايين يتبعون أقرانه من "المؤثرين"، بالرغم من كل التفاهة والسذاجة والهراء الذي ينشرونه على حساباتهم، بما لا يرقى لمستوى نقيق الضفادع وذيل الفيل وخرطومه.
في الخرطوم، ظهر العجب العجاب، وتكالب العسكر وممولوهم على الثوار، وانتقلت الولاءات من جانب إلى آخر، والحكاية لا تزال في البدايات. الكذب السياسي ابن شرعي للسلطة أينما وجدت، وإن كانت لا شرعية وصلت للحكم على الدبابات وعلى أجساد المواطنين العزل؛ الحالمين بمستقبل مشرق لا ينفك الساسة من التبشير به في كل المناسبات. فالجماهير في رأي المتسلطين لا يمكن حكمها إلا بالأكاذيب التي تتحول إلى حقيقة ذاتية، بديلا عن الحقائق الموضوعية على الأرض.
السياسي لم ينتصر يوما بالقوة وحدها، بل بالحيلة والخديعة والمؤامرات. لأجل ذلك، يعتبر الكذب "فضيلة" عليا، وفي المقابل يقر القوانين لملاحقة ما يعتبره "نشرا لأخبار كاذبة"؛ لا تعدو أن تكون آراء نقدية مخالفة تقدم رواية أخرى للأحداث.
في مصر، بلغت الكوميديا السوداء حدا بتخصيص النائب العام خطا ساخنا للإبلاغ عن "الأخبار الكاذبة والشائعات المزيفة". مصلحة الشعب والدولة تقتضي ذلك في رأي "الكذابين"، والشعوب، في الغالب، ذاكرتها ضعيفة وتهوى أن ترى الأشياء كما تتوهمها لا كما هي بالفعل. وما دام الأمر كذلك، فمسيلمة الأمس واليوم والغد سيبقى "شخصية عظيمة" تسير بذكرها الركبان.