ربما يُعتبر الحديث عن انتقال ديمقراطي في مصر من باب الترف، في ظل حالة الاستبداد غير المسبوقة، التي يصفها البعض بقربها من سلوكيات دولة محتلة، لا سلوكيات نظام يحكم رعايا من بني وطنه. لكن رغم ذلك، فإن آفاق الانتقال الديمقراطي ينبغي أن تبقى حاضرة في الوعي الجمعي المصري. إذ لم يشهد التاريخ استمرار حالة قمعية كالتي تعيشها مصر، سواء على المستوى السياسي أو على مستوى الضغوط الاقتصادية أو التفكك الاجتماعي، فإذا كان التغيير حتميا، فينبغي أن يكون التساؤل عن آفاقه وصورته.
توجد دراسة (قبيل الثورة المصرية) للدكتور عبد الفتاح ماضي بعنوان "مداخل الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية"، يرصد فيها صور التحول الديمقراطي، مُدلّلا بحالات تطبيقية، حدّد فيها ثلاثة مداخل للانتقال إلى الديمقراطية؛ الأول: الخروج من حكم الاستعمار إلى الحكم الديمقراطي مباشرة، ولسنا بصدد هذا المدخل إلى الديمقراطية؛ إذ تحررت مصر من الاحتلال الأجنبي. والثاني، الانتقال التدريجي من نُظم حكم الفرد أو القِلَّة إلى نظم الحكم الديمقراطية، والثالث، انهيار نُظم حكم الفرد أو القِلَّة وإنشاء نظم حكم ديمقراطية، وهذان المدخلان يحتاجان إلى بعض تفصيل.
آفاق الانتقال الديمقراطي ينبغي أن تبقى حاضرة في الوعي الجمعي المصري. إذ لم يشهد التاريخ استمرار حالة قمعية كالتي تعيشها مصر
بخصوص الانتقال التدريجي، فإنه يمر بثلاث مراحل، كما يحدث التغيير بأحد ثلاثة طرق، فالمراحل تبدأ بضعف النظام، ثم يقوم بإجراءات انفتاحية، ثم تبدأ عمليات انتقال ديمقراطية حقيقية يتبعها ترسيخ أُسس النظام الجديد.
هذه العملية قد تحدث بإحدى ثلاثة طرق، فإما تكون عبر قيادة جناح إصلاحي داخل النظام عملية الانتقال الديمقراطي، وقناعته بأن استمرار الأوضاع سيؤدي إلى تعقيد الوضع الداخلي، وما يمثله ذلك من خطورة على الوطن، بما لا يسمح بعلوّ الاعتبارات الذاتية على المصلحة العامة، فتبدأ عملية تدريجية للانتقال من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية.
والطريق الثاني، عبر التفاوض وتوافق النخب مع النظام الحاكم لتغيير الأوضاع. والثالث، الانتقال من خلال التظاهرات والمعارضة الديمقراطية. وفي هذه الحالة يكون للمعارضة الدور المحوري من خلال القيام بثلاثة تحركات استراتيجية: توسيع قاعدة المنادين بالديمقراطية وتكوين جبهة معارضة موحّدة، ودفع الجماعة الحاكمة إلى مزيد من التنازل، ثم دفع القوى الدولية الداعمة للنظام إلى التخلي عنه، أو على الأقل عدم ممانعة عملية التغيير. ومع تزايد التظاهرات وتوحيد جبهة المعارضة ورفع الدعم الدولي، يمكن للشارع أن يُسقط النظام القائم والبدء في عملية انتقال ديمقراطي.
مع تزايد التظاهرات وتوحيد جبهة المعارضة ورفع الدعم الدولي، يمكن للشارع أن يُسقط النظام القائم والبدء في عملية انتقال ديمقراطي
أما حالة انهيار نظم الحكم وإقامة نظام ديمقراطي، فقد تحدث نتيجة هزيمة أمام عدو خارجي، كحالة ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، أو جَرَّاء مواجهة مسلحة مع قوى داخلية ينهزم فيها النظام كحالة البرتغال، أو تدهور الأوضاع الداخلية كحالة رومانيا.
هذا التصور الذي كتبه أستاذنا د. عبد الفتاح ماضي، نُلاحظ فيه وجود عامل ضغط داخلي في جميع المداخل والطرق، فالتظاهرات حاضرة في كل الحالات، لكن ارتباط مُسمّى عملية الانتقال بتدخل إصلاحيين أو توافق نخب، فهو من باب عوامل تنظيم عملية الانتقال، لكن لا يمكن لأي حالة انتقال أن تحدث دون ضغوط داخلية واحتجاجات. فإذا كان هذا هو الإطار النظري لعملية الانتقال الديمقراطي، فماذا واقع عن الحالة المصرية؟
يمكن التعامل مع الحالة المصرية على مرحلتين؛ أولاهما، الفترة ما بين أعوام 2005 ومنتصف 2013، وثانيهما من منتصف 2013 حتى الآن. فالمرحلة الأولى كانت "بدايات" عملية انتقال ديمقراطي تدريجي عبر قيام نظام مبارك بعملية انفتاح سياسي، والسماح للمعارضة بمنافسة حزبه في مجلس الشعب، وتجاوزت المعارضة المصرية خُمس مقاعد البرلمان، وكان نصيب الأسد لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانونا وقتها وحاليا، ثم تراجع مبارك عن النزاهة في انتخابات 2010، ومع تزايد الضغوط والتحام المعارضة في صف واحد "الجمعية الوطنية للتغيير"، وقبلها "الجبهة الوطنية للتغيير"، ثم رفع الدعم الدولي عن مبارك أثناء تظاهرات 2011، نجحت التظاهرات في إزاحة مبارك وفرض مطالبها.
أخفق نظام ما بعد الثورة في التعامل مع ملف الانقسام السياسي والتأزيم الاقتصادي والحشد الإعلامي، فكانت النتيجة تكرر المظاهرات ضد نظام ما بعد الثورة، لتنقضّ المؤسسة العسكرية على الحكم، وتدخل مصر في عصر شديد الإظلام
بدأت مصر تخطو نحو الانتقال الديمقراطي عبر تشكيل مؤسسات منتخبة، ووضع دستور جديد، وانتخاب رئيس للجمهورية لأول مرة بتنافسية حقيقية، لكن تلك الإجراءات انتكست عبر تشتّت القوى التي أسقطت مبارك، ودخولها في مواجهة مع بعضها ارتقت إلى اشتباكات مسلحة عدة مرات. كذلك، قامت أطراف داخل النظام القديم بتأزيم الأوضاع الداخلية اقتصاديا، وأخفق نظام ما بعد الثورة في التعامل مع ملف الانقسام السياسي والتأزيم الاقتصادي والحشد الإعلامي، فكانت النتيجة تكرر المظاهرات ضد نظام ما بعد الثورة، لتنقضّ المؤسسة العسكرية على الحكم، وتدخل مصر في عصر شديد الإظلام.
بدأت المرحلة الثانية منذ الانقلاب العسكري يوليو/ تموز 2013، ومرت بمراحل عديدة، لكن المُحَصِّلَة أن النظام الحالي لا يوجد بداخله إصلاحيون، وقوى المعارضة لا تزال منقسمة فضلا عن ضعفها، والشارع لا يقدر على الحراك دون وجود قوى تنظيمية تدير هذا الحراك، فلم يبق أمام الحالة المصرية سوى انهيار النظام بشكل مفاجئ نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية. لكن الانهيار لا يعني بداية عملية انتقال ديمقراطي، إذ الانتقال لا يحدث إلا بوجود قوى تقدر على فرض الانتقال من حالة إلى أخرى، وهي غير موجودة (حاليا) في مصر. وفي المقابل، يمكن أن يصنع الحراكُ نخبةً جديدة تقدر على إدارة المشهد بمعزل عن المعارضة التقليدية حاليا، وتقوم بتمثيل مطالب واحتياجات المجتمع بصورة فاعلة، لكن يبقى صنع الحراك لنخبة سياسية جديدة أمر نظري، كما يمكن اختراقها بسهولة من أطراف من النظام القديم. والأهم، أن حالة الاحتجاج غير المُنظَّمَة والانفعالية محفوفة بمخاطر كبيرة، إذ قد تؤدي لانهيار كامل في منظومة القيم والسلم الأهلي، وتقترن بحالات إجرامية واسعة.
مأزق الحالة المصرية لا يزال في معارضتها وليس في النظام السياسي وحده، ولا يزال النداء "المتكرر" بوجوب صنع نخبة جديدة تقود عملية التغيير في مصر، قبل خروج الأمور عن سيطرتها.