الكتاب: العلم والتعليم بين التراث والحضارة
المؤلف: عبدالحسن حسن الخلف
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
سنة الإصدار: 2018
"لولا الكتب المدونة والأخبار المخلدة والحكم المخطوطة، التي تحصن الحساب وغير الحساب، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع".
كلمات الجاحظ هذه في كتابه "الحيوان" تقول الكثير عن أهمية ووظيفة التدوين في زمانه، لكنها تصح كذلك في كل زمان ومكان، إذ لم تعرف أي من المجتمعات البشرية تقدما معتبرا من دون اهتمام قوي بعلوم وآداب الأمم السابقة والبناء عليها والإضافة أليها، ومستودع كل ذلك كان دائما الكتب والمشتغلين بوضعها وحفظها ونقلها.
الكتب مستودع للحكمة والعبر والتراث، تتواصل عبرها الأجيال والأمم المتعاقبة
اختار الباحث والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسن حسن الخلف عصر الجاحظ، باعتباره "عصر الحضارة العربية"، نقطة مركزية يدور حولها موضوع كتابه "العلم والتعليم بين التراث والحضارة"، واختار مقولات الجاحظ وآراءه في هذا السياق كمسبار يكشف به عن ظروف التأليف والكتابة وأدواتهما، وأحوال المتعلمين والعلماء، والنظرة الاجتماعية السائدة تجاه هذا النشاط المعرفي، مقارنا كل ذلك بما نعرفه جميعا من شؤون الحياة العلمية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. وكتمهيد لذلك يبدأ الخلف مؤلفه بالحديث عن الكتابة وأدواتها في العصر الجاهلي، ثم في العصر العباسي وفي عصر الجاحظ على وجه الخصوص، لتتوزع فصول الكتاب الخمسة بعد ذلك على عناوين تعرض لرؤية الجاحظ للمعلمين والمتعلمين والطرق التعليمية، وآرائه في فضائل الكتب وفوائدها المادية والمعنوية، بالإضافة إلى عنوان خاص يتناول موضوع التربية والتعليم في مقدمة ابن خلدون، يرى الكاتب أن الباحثين لم يولوه العناية والاهتمام كما فعلوا مع بقية موضوعات المقدمة.
في فضائل الكتب
حظيت الكتب في العصر العباسي بمكانة كريمة رفيعة، حيث جعلها الجاحظ في طرف مقابل للمعلم، فأعطاها وظيفته بل وفضلها عليه، فالكتاب كما يقول "هو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك، وإن قطعت عنه المادة ـ يقصد الأجر ـ لم يقطع عنك الفائدة". ويروي أحد معاصري الجاحظ أنه ما دخل إليه إلا رآه ينظر في كتاب، أو يقلب كتبا، أو ينفضها. والكتب إلى ذلك تشحذ العقل "وتداويه، وتصلحه وتهذبه، وتنفي الخبيث عنه"، وتتعدى فضيلتها العلمية ذلك إلى الفائدة النفسية والأخلاقية لما فيها من إمتاع فني وأدبي، وقدرة على إعمار الصدر بكل جميل ونفيس.
وفي فضيلتها الاجتماعية يرى الجاحظ أن الكتب مستودع للحكمة والعبر والتراث، تتواصل عبرها الأجيال والأمم المتعاقبة فيقول: "لا أعلم إنتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة، ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد النازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب".
الكتب صارت سلعة تباع وتشترى، وتدر رزقا على المؤلفين والناسخين والمتعاملين بها وبأدواتها
وقد لاحظ ابن خلدون أن حاجات الناس تختلف باختلاف كل مرحلة حضارية ومعها تختلف أنواع العلوم والمعارف التي تخاطب عقولهم ونفوسهم، و"التفت ابن خلدون إلى الأمصار الإسلامية في عهده يتفحص المستوى التعليمي وطرق التدريس فيها على وفق مستواها الحضاري". لكنه مع ذلك يؤكد على أن أصل التعليم فيها كلها كان القرآن الكريم، وأسباب ذلك دينية وحضارية وتربوية. فبدون شك أن تدريس القرآن كان يهدف إلى ترسيخ الإيمان في قلوب الصغار من المتعلمين، وهو بعد ذلك أساس تقوم عليه كل العلوم الدينية، وفيه من دروس البيان واللغة والحكمة ما يثري ملكات المتعلم الأدبية والعقلية.
من المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم ألا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما
ويفصل ابن خلدون في طرق أهل المغرب في تدريس القرآن ومدى اختلافها عن طرق أهل المشرق، لكنه يتحدث أيضا عن "اختلاف العلماء في طرق التدريس، وأهميتها في التحصيل العلمي، وفرق بين الطرق الرديئة والطرق الجيدة، ووضع مساوئ ومحاسن كل منهما"، مشيرا إلى أن طرائق التدريس لا تختلف باختلاف المعلمين فقط، بل وباختلاف المتعلمين حسب أعمارهم ومستوياتهم الفكرية وتفاوت مواهبهم، وطبيعة المادة العلمية. وله في هذا الباب ملاحظات كثيرة منها قوله: "من المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم ألا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما" بسبب تشتت الذهن وتشعب المعلومات، وقوله أيضا: "إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا وقليلا قليلا"، وحرصه على تذكير المعلم بمراعاة الحالة النفسية للمتعلم المبتدئ واستعداده وقابليته لتلقي العلم، محذرا من إرهاقه والقسوة عليه.
وفي التأليف ومناهج التعليم يشير ابن خلدون إلى أن الحضارة الإسلامية في مراحلها الأولى اقتصرت حركة التعليم فيها على دراسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي القديم، ومرد ذلك، بالإضافة إلى الأسباب الدينية والتربوية، بساطة وحداثة المجتمعات الإسلامية المدنية، لكن هذه الحال تغيرت مع توسع الدولة الإسلامية وتطور شؤونها، رافقه انفتاح على علوم ومعارف شتى ولّدت حركة ترجمة وتأليف ضخمة.
ويذكر ابن خلدون "أن الناس حصروا مقاصد التأليف في سبعة ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، وهي: استنباط العلم وتفهم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، وإيصالها إلى الآخرين لتعم الفائدة، أو توضيح ما استغلق على الأفهام منها، أو تصحيح أغلاط وأخطاء المتقدمين فيها، أو إكمال ما نقص من مسائل في أحد فنونها أو ترتيب المسائل في أبوابها، أو جمع مسائل علم كانت مفرقة في أبواب من علوم أخرى، ثم تلخيص ما كان مطولا مسهبا من أمهات فنونها، وذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر مع الحذر من حذف الضروري". وهي أهداف للتأليف ما زالت صالحة حتى اليوم وإن كانت تعدت ذلك في زماننا إلى ما هو أكثر اتساعا وتنوعا، وهو أمر طبيعي يفرضه قانون تطور المجتمعات وتعقد مكوناتها وحاجاتها.
الأكراد وإسرائيل وأمريكا واحتلال العراق.. أحداث ومواقف
أكراد العراق.. مسار التحولات من السلاح إلى العمل السياسي
الإبداع في مواجهة الاتباع.. قراءات في فكر طه عبد الرحمن