الكتاب: الإباضية مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج
المؤلف: الدكتور علي محمد محمد الصلابي
الناشر: ابن كثير- بيروت، الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 974
منذ مدة طويلة، والتمثلات الثقافية والتاريخية والشرعية السائدة، ترسخ نسبة الإباضية إلى الخوارج، إذ لم يحدث أن تم التحقيق العلمي في هذه القضية، ولا نخل التراث التاريخي والكلام العقدي لهذه الفرقة، للاستبانة في هذه القضية البحثية السياسية في آن واحد، وربما ساهمت كتب التأريخ الكلامي، وضعف امتداد هذه الفرقة كواقع عقدي وسياسي في الوطن العربي، وكذا هدوء جبهة الصراع معها في تزكية تلكم التمثلات، والحيلولة دون التحقيق في الموضوع.
من هذه الزاوية يكتسب هذا الكتاب أهميته؛ أن الدواعي التي سوغت البحث والتنقيب في هذه القضية، ارتبطت بفكرة المشروع الوطني في ليبيا، وما يقتضيه من حوار بين جميع مكونات الطيف الليبي، ومنها على وجه أخص، الطيف الذي تمثل الإباضية فيه مكونا أساسيا، إذ بدأ السؤال أول ما بدأ دينيا (هل يجوز الصلاة خلف الإمام الإباضي؟) لينتهي إلى سؤال سياسي يرتبط بآفاق الحوار والتعايش والتنسيق ضمن مشروع وطني واحد ينتظم جميع الطيف الليبي.
المسألة الأكثر حساسية في الموضوع ليس هو صلة الإباضية كمكون ديني في ليبيا أو بعض البلدان الإسلامية، بالخوارج، وإنما صلتها بقضية التكفير
تلكم القضية التي بررت لدى الدكتور علي محمد الصلابي التأليف في هذه المسألة البحثية الدقيقة، التي استغرقت منه قرابة ألف صفحة، مستحضرا في ذلك قواعد الإنصاف والتجرد والموضوعية في الحكم على تراث الإباضية، وبحث صلته بالخوارج، وذلك باستنطاق تراث المدرسة الإباضية، والاطلاع على مصادره الأولى، والتعرف على سير أعلامها، وتراثها الفقهي والعقدي والكلامي والفكري.
والحقيقة أن المسألة الأكثر حساسية في الموضوع ليست هي صلة الإباضية كمكون ديني في
ليبيا أو بعض البلدان الإسلامية، بالخوارج، وإنما صلتها بقضية التكفير، بحكم أن أول تيار استحل التكفير واستعمال العنف لتصفية الكافر الذي يتم الحكم عليه بمقتضى عقدي خارجي هو تيار الخوارج. ولذلك اعتبر الصلابي أن البحث في هذه القضية والانتهاء بشأنها إلى حقائق علمية يعتبر مسؤولية دينية وأخلاقية ووطنية وإنسانية.
في ضوابط التحقيق في تراث الإباضية
اشترط الدكتور الصلابي على نفسه في مقدمة كتابه، أن يلتزم أدب العلماء وضوابطهم في التعامل مع المخالف، واستحضر منها التجرد وتحري القصد عند الكلام عن المخالفين، والبعد عن السب والجرح، وأهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام، ولزوم حمل الكلام على أحسن محامله، وتأويله على الوجه الحسن، وإحسان الظن بالمسلمين، وضرورة الجمع بين النصوص والمقالات والنظر إليها في سياق كلي، واستحضار خلافات الأقران، وعدم التأثر بسلبياتها في التعامل مع المخالفين، والتزام نقد الآراء وبيان الأخطاء دون التعرض للأشخاص، والابتعاد عن المجادلة المفضية للنزاع، وحمل كلام المخالف على ظاهره، وعدم تأويله على وجه يخرجه عن الحق، والابتعاد عن محاكمة النوايا والبواطن.
الصلابي: نسبة الإباضية للخوارج، إنما وقع عن طريق المغالطة التاريخية، وقلة التثبت والتحقق العلمي
وفي سبيل الالتزام بهذه الأصول والضوابط، فقد قام الصلابي بدراسة المذهب الإباضي من أصوله ومصادره، وتعرف على علمائه الربانيين والسياسيين، وكذا الباحثين الجادين الذين أثروا الحضارة الإسلامية باجتهاداتهم السياسية والأصولية والفقهية والفكرية والاجتماعية، وذكر منهم ثمانية أعلام كبار، فانتهى في مسار بحثه الطويل، إلى أن الإباضية يمثلون مدرسة إصلاحية إسلامية بعيدة عن الخوارج، مؤكدا أن نسبة هذه الفرقة للخوارج، إنما وقع عن طريق المغالطة التاريخية، وقلة التثبت والتحقق العلمي، كما وقع أيضا بسبب نسبة أقوال ومعتقدات باطلة إليهم مما نفاه المحققون والعلماء الراسخون من شيوخ المذهب. كما خلص الصلابي في كتابه إلى أن الإباضية، خطوا لأنفسهم رؤية خاصة، نظروا بها إلى تاريخ صدر الإسلام، سواء في فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والجمل وصفين والنهروان والتحكم والدولة الأموية، لم تخرج عن حدود الاجتهاد البشري، وأن هذه الرؤية قابلة للحوار والنقاش والبحث العلمي والأخذ والرد والنقد الموضوعي.
الإباضية ومحاربتهم لفكر الخوارج
تعرض الصلابي في المبحث الأول من كتابه للمدرسة الإباضية من خلال أعلامها وتطور كسبها العقدي والفقهي، فتحدث عن نشأة المدرسة وأصل التسمية، والإٍرهاصات الأولى للتمايز بينها وبين الخوارج، ففصل القول في سيرة الإمام المحدث جابر بن زيد، وتصدره للفتوى وزهده، ومحاربته لفكر الخوارج، وشروعه في تشكيل التنظيمات السرية للحركة الإباضية، فضلا عن مكانته العلمية بين علماء أهل السنة والحديث، إذ كان تلميذا لابن عباس رضي الله عنه. كما تناول الصلابي علاقة الإمام جابر بالحجاج بن يوسف الثقافي ومحنته معه.
ولم يكتف الصلابي بهذا العلم، وإنما بحث أيضا سيرة ابي عبيدة أبي كريمة التميمي الذي قاد الحركة بعد جابر، وتطور الحركة في عهده وعلاقته بالخليفة عمر بن عبد العزيز والمجالس السرية والعلنية التي أحدثها، ونأيه عن الحكام في عصره، وتكوين المجتمع المغلق المتعاون والحكومة الثورية السرية، وتأني أبي عبيدة في إعلان الثورة ونشر الدعوة في شمال إفريقيا، كما تناول الصلابي في هذا القسم، نتائج العمل السري للدعوة الإباضية، والدول التي شكلتها، سواء في عمان أو شمال إفريقيا، كالدولة الرستمية، وتناول أيضا مراحل المجتمع الإباضي من الكتمان إلى الشراء، والدفاع ثم الظهور، موضحا في هذا السياق أهم الفرق التي انشقت عن الإباضية.
الصلابي انتهي إلى وجود مسافة كبيرة بين الإباضية وبين الخوارج، وأن الإباضية لا يستحلون التكفير، ولا يختلفون إلا في القليل النادر مع مدرسة أهل السنة والجماعة.
كما حاول الصلابي في المبحث الثاني، أن يتناول النظرة الخاصة التي خطتها الإباضية لنفسها في قراءة بعض أحداث التاريخ، وبحث جزئية موقفهم من الصحابة ورأيهم في اجتهاداتهم السياسية، كما
عرض لمواقفهم من الأحداث الدامية التي عرفها التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام، وحقق في مسألة الاتهامات التي وجهها الإباضية إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وحكمه، مبينا بطلانها، كما نقل موقف الخليفة عمر بن عبد العزيز حين أرسل أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة إلى الخليفة يدعوه لقبول أفكار المذهب الإباضي، وكيف وافقهم عمر بن عبد العزيز على غالبية آرائهم، سوى ما كان من الطعن في عثمان رضي الله عنه، فقال في ذلك: "تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلنطهر منها ألسنتنا".
وتوقف الصلابي عند حادثة رفضهم لرأي عمر بن عبد العزيز في عثمان بن عفان وحكمه، وكيف تبنى أبو عبيدة رأي عمر بن عبد العزيز، واعتبر الصلابي أن هذه الحادثة تعتبر دليلا على أن علماء الإباضية المعتمدين كانوا على رأي عمر بن عبد العزيز في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وليس على رأي ابن إباض، ونقل في ذلك أقوالا عديدة لعلماء الإباضية يثنون على ولاية عمر بن عبد العزيز الحكم.
كما تابع الصلابي مواقف الإباضية من معركتي الجمل وصفين وحادثة التحكيم، وذكر أقوال الإباضية في هذه الأحداث ومخالفيهم، وموقف الإباضية من الدولة الأموية، وناقش رأي العلامة الخليلي فيهم وفي بعض الأحداث من قبيل وصول معاوية للحكم، وهل ثبت لعن معاوية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟ والانتقادات التي وجهت إلى معاوية بشأن بيعة اليزيد، وطرق انعقاد البيعة لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي رضي الله عنهم.
وانتهى من هذه الدراسة إلى وجود مسافة كبيرة بين الإباضية وبين الخوارج، وأن الإباضية لا يستحلون التكفير، ولا يختلفون إلا في القليل النادر مع مدرسة أهل السنة والجماعة.
ولع الإباضية بالقيم
وقد تناول الصلابي في القسم الثالث من كتابه أصول المذهب الإباضي وفقهه وقواعده، فبين أنه يستند في قواعده وأدلة الأصول على القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس، مبينا في ذلك الفروق الطفيفة بينه وبين مدرسة الإمام مالك، أو غيرها من المدارس الفقهية، كما توقف عند أهم القواعد المشتركة بين الإباضية والمدارس الفقهية الأخرى، والاجتهاد عند الإباضية، وأهميته وشروطه، وكيف اجتهد أئمتهم في حل بعض المشكلات المعاصرة.
وتعرض الصلابي لموقف الإباضية في موضوع الإمامة، ورأيهم في الخروج عن الحكام، ومتى يكون ذلك؟ وأهم الأدلة التي احتجوا بها في هذه المسألة، وعرض الصلابي أيضا لرأي مخالفيهم، مسنودة بحججها وأدلتها، وتعرض أيضا لمنهج الإباضية في التزكية والأخلاق والقيم، واهتمامهم بالقيم كالرحمة والعدل والصدق والأمانة والعفة والعفاف والاعتدال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرص علمائهم على تربية الأتباع عليها، ومحاربة الأخلاق الذميمة والمحرمات، وتناول الصلابي أيضا نظام العزابة عندهم، وأهميته في التربية وغرس القيم وتطهير النفوس وإحياء القلوب.
الإباضية قديما وحديثا، لم يقبلوا قط أن ينسبوا إلى الخوارج، وإنما رأوا في أنفسهم مدرسة إسلامية مستقلة،
أما في القسم الرابع من كتابه، فقد تعرض للعقيدة الإباضية، وأصولها، مبينا مفهوم الإيمان عندهم، وعلاقته بالعمل، والفرق بين الإسلام والإيمان عندهم، ومسألة زيادة الإيمان ونقصانه وعوارض الإيمان، وأقسام الكفر، والفرق بين كفر الشرك وكفر النعمة عندهم، فضلا عن أحكام كفر النعمة، ومفهوم النفاق، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم، كما تناول مفهوم الولاء والبراء عند الإباضية، والتوحيد وتأويل المتشابه، وموقف السلف والخلف من ذلك. كما تناول مسألة الرؤية في عقيدتهم وأدلة من نفى ذلك، وأدلة المثبتين وطبيعة الخلاف بين الفريقين، كما أشار الصلابي لقضية خلق القرآن، وتعاطفهم في ذلك مع الإمام أحمد في محنته، ورفضهم لفرض المعتقدات بالقوة وعنف السلطة، واعتبارهم الخلاف في هذه المسألة من فروع العقائد.
الإباضية ليسوا من الخوارج
وقد انتهى المؤلف بعد هذه الدراسة الطويلة إلى أن كتب الفرق، ومنها على وجه الخصوص كتاب أبي الحسن الأشعري "مقالات الإسلاميين" وكذا كتاب عبد القاهر البغدادي "ّالفرق بين الفرق" والشهرستاني في "الملل والنحل" وابن حزم في "الفصل في الملل والنحل"، أخطأت حين نسبت الإباضية إلى الخوارج، وأنها فعلت ذلك عن طريق نقل المصادر بعضها عن بعض، دون تحقق من مصادر الإباضية الأصيلة، وأن الإباضية قديما وحديثا، لم يقبلوا قط أن ينسبوا إلى الخوارج، وإنما رأوا في أنفسهم مدرسة إسلامية مستقلة، تستمد أصولها من المصادر الشرعية، وأن عبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية لم يقم إلا بدور ثانوي، بينما الدور المركزي يعود لجابر بن زيد الأزدي، الذي يعتبر إمام الإباضية ومؤسس فقههم ومذهبهم، وأن الأمويين هم من أطلقوا عليهم إسم الإباضية، لأن عبد الله إباض كان يناظرهم، وكان يمثل الواجهة السياسية للإباضية، وأنهم لم يكونوا يريدون نسبة هذه الافرقة إلى جابر بن زيد ذي المكانة العلمية المشرفة.
كما يستند الصلابي في تأكيده للتمايز بين الإباضية والخوارج بموقف ابن إباض نفسه من الخوارج، إذ تصدى للمتطرفين منهم، ورد على نافع بن الأزرق والصفرية، وأصبح المناظر باسم أهل الدعوة ضد مناوئيهم من الخوارج، وغيرهم من الفرق، وأنه بعد اختفاء عبد الله بن إباض، أقلع الإباضية عن المناقشة العلنية والجدل الكلامي مع مناوئيهم، ولجأ جابر بن زيد إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوته، فدخلت الإباضية في مرحلة الكتمان، كما خلص الصلابي في كتابه إلى تأكيد المسافة البعيدة بين المدرسة الإباضية والخوارج الذين حكموا على أهل ملة التوحيد بأحكام المشركين، فاستباحوا دماءهم وغنم أموالهم وسبي الذراري، وذكر استنكار الإباضية لهذا الغلو منذ بداية بروزه، إذ كان لعلماء الإباضية ـ وعلى رأسهم جابر بن زيد المؤسس ـ دور كبير للتصدي لفكر الخوارج.