الكتاب: وسطاء الخداع.. كيف قوضت الولايات المتحدة الأمركية عملية السلام في الشرق الأوسط
المؤلف: رشيد الخالدي
ترجمة: سارة ح. عبدالحليم
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2015
"إن ما حل بالشعب الفلسطيني، منذ العام 1948، يعد من الجرائم الكبرى في التاريخ الحديث. وقطعا، تتحمل إسرائيل، بصفة رئيسية، المسؤولية عن هذه المأساة. بيد أن الرؤساء الأمريكيين، من ترومان إلى أوباما، كما يظهر رشيد الخالدي في كتابه هذا، انحازوا إلى إسرائيل في كل منعطف تقريبا، وساعدوها في إلحاق ألم وإذلال هائلين بالفلسطينيين، وعملوا في الوقت نفسه على توظيف خطاب رنّان، وإن كان غير نزيه، للتغطية على سلوك إسرائيل الوحشي.
إن الولايات المتحدة كما يبين "وسطاء الخداع" تستحق أن توصف بأنها محامي إسرائيل. هذه هي عبارات جون جيه ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، والمؤلف المشارك في الكتاب الشهير"اللوبي الإسرائيلي"، معلقا على كتاب الخالدي محل العرض هنا.
أسهمت الشعارات والمقولات الأمريكية التي تم تردادها باستمرار.. حول "عملية السلام"، في إخفاء حقيقة بشعة
كلمات مهمة بحق الكتاب والمؤلف الفلسطيني- الأمريكي، الذي أتاح له موقعه كمستشار للوفد الفلسطيني إلى
مفاوضات السلام العربية ـ الإسرائيلية في مدريد وواشنطن، وخبراته الأكاديمية والعملية، فرصة الاطلاع الوافي على مجريات ودهاليز السياسة الأمريكية، لتقديم مراجعة موضوعية لمفاعيلها وأثرها على ما سمي بـ "عملية السلام".
ثلاث محطات كاشفة
يحدد الخالدي في مقدمة الكتاب هدفين رئيسيين لهذه الدراسة. الأول هو محاولة الكشف عن مدى تضافر السياسات الأمريكية والإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، والثاني هو معاينة ثبات عناصر أساسية في السياسة الأمريكية في ما يتعلق بفلسطين على مدى عقود طويلة. ويقوم بذلك من خلال التوقف عند ثلاث محطات أو منعطفات يعتقد أنها كاشفة لحجم محورية الدعم الأمريكي في استمرار
الاحتلال والهيمنة الإسرائيليين.
وفي ذلك كله يتوقف أيضا الخالدي عند استغلال وإساءة استخدام اللغة من قبل الحليفين (إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية)، لتشويه وتزييف الحقائق والواقع. يقول الخالدي: "أسهمت الشعارات والمقولات الأمريكية التي تم تردادها باستمرار.. حول "عملية السلام"، في إخفاء حقيقة بشعة، وهي أنه أيا ما كانت العملية التي تؤيدها، لم تكن في واقع الأمر موجهة لتحقيق سلام عادل ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. إن العملية التي تولتها فعليا الولايات المتحدة هدفت بصفة أساسية إلى الضغط على الفلسطينيين الأضعف لمسايرة رغبات الطرف المضطَهد الأقوى بكثير".
ظلت المبادرات الدبلوماسية الأمريكية في مفاوضات الشرق الأوسط مشروطة بموافقة مسبقة من إسرائيل
أول هذه المنعطفات كان في العام 1982، عندما استشعر صانعو السياسة في إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغن فرصة لتقديم مقترح لتنفيذ بنود اتفاقيات كامب ديفيد 1978 المتعلقة بالحكم الذاتي الفلسطيني. والتي انتهت بإذعان هؤلاء للموقف الإسرائيلي، والاعتراضات شديدة اللهجة لرئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن.
والمنعطف الثاني مرتبط بالمفاوضات الثنائية التي امتدت قرابة العامين، بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني في واشنطن في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد في عام 1991، حيث تكشف الوثائق درجة عالية من التنسيق بين الأمريكيين والإسرائيليين، واستجابة متناهية من الولايات المتحدة للمطالب والشروط الإسرائيلية، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون واشنطن وسيطا لا حليفا وداعما.
أما المنعطف الثالث فيظهر في الجزء الأخير من السنوات الأربع لإدارة أوباما الأولى، حيث واجه الرئيس الأمريكي ضغطا من ثلاث جهات؛ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقيادة الجمهوريين في الكونغرس، واللوبي الإسرائيلي، دفعه للقيام بتراجعات"مهينة عن مواقف كان قد اتخذها خلال العامين الأولين له".
يقول الخالدي: "إن من بين هذه المواقف تشديده على وقف توسيع المستوطنات في الضفة الغربية كشرط مسبق للمفاوضات، وإصراره على أن العودة إلى حدود عام 1967، مع تعديلات طفيفة، طبقا لقرار مجلس الأمن242، هو الأساس المناسب الوحيد للمفاوضات، علما أنها مواقف أجمعت عليها معظم الإدارت الأمريكية السابقة".
خطوط عريضة لسياسة قديمة
استند الخالدي في مقاربته لهذه الأحداث على سجلات حكومية أمريكية تم رفع السرية عنها، ووثائق سرية لمفاوضات مدريد وواشنطن بحوزته، واستقصاء للعديد من التصريحات والأفعال للحكومتين الأمريكية والإسرائلية خلال فترة تناهز الخمسة والثلاثين عاما.
ويشير الخالدي إلى أنه على الرغم من تركيزه على هذه العقود الثلاثة، فإن ما أسماه الديناميكيات الأساسية الفاعلة في السياسة الأمريكية إزاء فلسطين ظلت ثابتة لوقت أطول بكثير، حيث يمكن ملاحظة الخطوط العريضة لها ابتداء من العام 1945، إبان فترة الرئيس هاري ترومان، إذ حكمت "أنساق" ثلاثة مجمل المواقف التي اتخذتها الإدارات الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أولها غياب أي ضغط حقيقي عربي على الولايات المتحدة، خاصة من أكبر وأغنى هذه الدول المملكة العربية السعودية، وثانيها الحسابات السياسية الداخلية التي يحضر فيها اللوبي الإسرائيلي بشكل لافت، وثالثها عدم الاكتراث بحقوق الفلسطينيين.
متانة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تجاوزت ما يمكن وضعه في إطار التحالف، ووصلت إلى الحد الذي يمكن فيه اعتبار أمريكا "الدولة الأم" للمشروع الاستعماري في الضفة الغربية
يشرح الخالدي كيف كُبِلت يد الدبلوماسية الأمريكية على مدى عقود بفعل تعهدات لإسرائيل، علنية وسرية، ألزمت بها واشنطن نفسها بعدم التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية ـ على سبيل المثال ـ أو الاعتراف بها إلا إذا اعترفت بحق إسرائيل بالوجود، رغم أنها لم تطلب في المقابل اعترافا اسرائيليا بحق فلسطين بالوجود. وكيف ظلت المبادرات الدبلوماسية الأمريكية في مفاوضات الشرق الأوسط مشروطة بموافقة مسبقة من إسرائيل، التزاما بمضمون رسالة سرية من الرئيس جيرالد فورد إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين عام 1975 جاء فيها "إذا ما رغبت الولايات المتحدة في المستقبل أن تتقدم بمقترحات خاصة بها، فسوف تبذل كل جهد ممكن للتنسيق مع إسرائيل بشأن مقترحاتها بغرض الامتناع عن تقديم مقترحات تعتبرها إسرائيل غير مرضية". يعلق الخالدي على هذا التعهد مؤكدا أن أثره كان شاملا ومتغلغلا في كل مواقف ومبادرات واشنطن في ما بعد.
يتوقف الكتاب أيضا عند مذكرة سرية وضعها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في العام 1982، بعنوان "الخلافات الأمريكية الإسرائيلية حول عملية كامب ديفيد للسلام" يشرح فيها بالتفصيل لصانعي السياسات الأمريكية التفسير المقيد الذي حددته حكومة مناحيم بيغن لمفهوم الحكم الذاتي الفلسطيني. تفسير يستثني نشأة دولة فلسطينية تحت أي ظرف، ويستثني حق تقرير المصير للفلسطينيين، ويفترض أن يستمر الاستيطان وألا تقع أي من المستوطنات تحت سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وأن تظل القضايا الأمنية الداخلية والخارجية تحت السيطرة الإسرائيلية مع حقوق شرطية محدودة للفلسطينيين، وألا تعتبر القدس الشرقية جزءا من الضفة الغربية.
تصور بيغن للحكم الذاتي ستتبناه كل الحكومات الإسرائلية اللاحقة، وستذعن له الولايات المتحدة بدل أن تجابهه، وهو في الحقيقة ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف إذا ما نظرنا اليوم إلى صلاحيات ووضع السلطة الفلسطينية القائمة.
محامي إٍسرائيل المخلص
ويبدأ الخالدي الفصل الأخير من كتابه بمقتطف من خطاب باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2011. وهو خطاب كرّس بحماسة "العناصر الأساسية للرواية الرئيسية الإسرائيلية" التي تروج لخطر وجودي دائم محدق بإسرائيل وبالشعب اليهودي بشكل عام، رغم حقيقة إدراكه أن مثل هذا التوصيف بعيد كل البعد عن الواقع، وتكذبه كل التقارير الاستخبارية التي قدمت له ولغيره من الرؤساء الأمريكيين.
ويرى الخالدي أن إصرار السياسيين الأمريكيين على تبني وترديد هذا الكلام الإنشائي "شكل فعليا نوعا من التصريح المفتوح لإسرائيل الذي يغطي خطايا كثيرة" ومنحها مساحة أكبر لمواصلة سياساتها العدوانية مع الاطمئنان إلى إفلاتها من المحاسبة.
في هذا السياق يجد الخالدي أن كل حديث أمريكي عن الوقوف على مسافة واحدة من طرفي الصراع، ومحاولة لعب
دور وسيط نزيه، ما هو إلا محض هراء. فكل الشواهد والمواقف الفعلية للمسؤولين الأمريكيين، والمنخرطين منهم على وجه الخصوص في "عملية السلام"، أثبتت أنهم ليسوا أكثر من ناقلي رسائل. والأدهى من ذلك أنهم أظهروا في مناسبات كثيرة شراسة في الدفاع عن المقترحات الإسرائيلية، في الوقت الذي كانوا يمارسون فيه ضغطا هائلا على الطرف الفلسطيني لتقديم التنازلات.
ويستشهد الخالدي هنا بمحاولات كوندوليزا رايس إقناع المفاوضين الفلسطينيين في 2008 تقديم تنازلات تسمح لاسرائيل بالاحتفاظ بمساحات كبيرة من الأراضي في كتل استيطانية، كانت ستقسم "الدولة" الفلسطينية المفترضة إلى أربع كانتونات منفصلة ومعزولة، والتخلي عن حق عودة اللاجئين، وتجاهل مسؤولية إسرائيل عن النكبة، قائلة: "إن الأمور السيئة تحدث للناس طوال الوقت في كل أنحاء العالم. عليكم أن تنظروا إلى الأمام".
بلغت المحاباة الأمريكية لإسرائيل حدا جعلها تضع السياسات الداخلية الإسرائيلية في الحسبان عند كل قرار يتعلق بالمفاوضات مع الفلسطينيين
"إنه استعراض لانعدام الإحساس المذهل" يقول الخالدي ويتابع: "لقد كانت هذه عبارة صاعقة بحق، بالنظر إلى أنها تصدر عن شخص لديه خلفيتها. فمن الصعب أن نتخيل أنها قد تقول الشيء ذاته لجمهور يهودي أميركي أو إفريقي أميركي عن الأحداث المؤلمة التي كانت محورية في ماضيهم الجمعي".
ويؤكد أن متانة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تجاوزت ما يمكن وضعه في إطار التحالف، ووصلت إلى الحد الذي يمكن فيه اعتبار أمريكا "الدولة الأم" للمشروع الاستعماري في الضفة الغربية، إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار التمويل الأمريكي الخاص (المحسوم من الضرائب) للمستوطنات، والانتقال الدائم للمستعمرين القوميين المتدينيين من الولايات المتحدة للعيش في هذه المستوطنات.
لقد بلغت المحاباة الأمريكية لإسرائيل حدا جعلها تضع السياسات الداخلية الإسرائيلية في الحسبان عند كل قرار يتعلق بالمفاوضات مع الفلسطينيين. ففي إحدى الوثائق المسربة يرد ستيفان هادلي، مستشار الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي، عام 2005 على مخاوف رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض بشأن توسع المستوطنات، بالقول: "إذا استطعنا المساعدة فسنفعل، لكن علينا أن نأخذ في الحسبان مشكلات شارون الداخلية".