(1)
أخطأ عمرو واكد لأنه ذهب إلى المؤتمر الأمريكي ليشكو من قمع سلطات بلاده، وتنكيلها بالمعارضين..
وأخطأت أنا حين سافرت إلى تركيا..
وأخطأ الفريق أحمد شفيق حين ظهر في تسجيل مصور على شاشة الجزيرة..
وأخطأ سامي عنان عندما أعلن عزمه الترشح للرئاسة وهو على ذمة القوات المسلحة..
وأخطأ عبد المنعم أبو الفتوح حين سافر إلى لندن والتقى من التقى..
وأخطأ معصوم مرزوق عندما اصدر نداء يحذر فيه من مخاطر تهدد أمن واستقرار
مصر..
وأخطأ الولد الذي تعاطف مع حماس الإرهابية..
وأخطأت الفتاة التي تضع على "بروفايل صفحتها في فيسبوك" صورة رجب طيب أردوغان..
وأخطأ الناشط الذي يتلقى معونات من الخارج..
وأخطأ كثيرون في حق الدولة.. وحق الـ..
توقف قليلا واسمعني:
لكن الدولة نفسها تفعل كل ذلك، فلماذا لا نعتبر ما تفعله خطيئة؟
(2)
الحديث عن وجود تفويض لدى الدولة يكفل لها أن تفعل كل ذلك، بينما لا يوجد تفويض لمواطن كي يذهب إلى الكونجرس ويتحدث عن قضايا الحريات، يذكرنا تماما بحجة الحاكم العسكري الإنجليزي لمصر، بأن سعد زغلول ورفاقه لا يحق لهم الذهاب إلى مؤتمر باريس لعرض القضية المصرية؛ لأنهم لا يملكون تفويضا من الشعب، ولما اندلعت ثورة 1919 كانت في خلفيتها "فكرة التفويض الشعبي"؛ التي تسوغ لناشط أو مثقف يناضل من أجل استقلال بلاده أن يذهب إلى مؤتمر لكي يعرض وجهة نظره على العالم المتحضر، كي تحصل بلاده على استقلالها وحرياتها. لكن هل ظل العالم على حاله بعد 100 عام؟ هل يحتاج المثقف إلى تفويض شعبي كلما فكر في الحديث عن شؤون وقضايا بلاده وفق معايير دولية معلنة، ووفق طلبات يحق الوفاء بها، واستنكارا لأحداث وانتهاكات لا ينبغي السكوت عليها؟
الإجابة في رأيي لا تدخل في إطار رأيك ورأيي، الإجابة تفرضها حالة الإعلام وأدوار المثقفين، ومدى خضوع الدول لتقييمات من خارج حدودها، وترتيبها وفق مؤشرات تشرف عليها مؤسسات دولية، بحيث تبدو الدولة منسجمة تماما مع المنظومة العالمية، لكنها تريد أن تحتكر لنفسها حقوق الكلام، وطريقة عرض الحال، وزاوية تقديم القضايا، وفرصة تضخيم المبررات، فتفعل كل ما تريد، بينما تمنع على شعوبها ذلك، بل وتمنعه على أصحاب الحيثية، من المثقفين والمسؤولين السابقين.
فواكد ليس من حقه أن يسافر ويقدم وجهة نظره ووجهة نظر من يمثلهم، لكن الدولة نفسها تتبنى وتدعم وفودا شعبية لترويج وجهة نظرها.. والسيسي من حقه الترشح ببدلته العسكرية، لكن عنان قائده السابق لا يحق له.. وأبو الفتوح لا يجب أن يسافر ويجتمع، بينما الهلباوي يفعل ولا يعاقب.. والدكتور عبد المنعم سعيد يحق له مقابلة حماس وقادتها، بينما غيره يتم اتهامه بالتخابر.. ومستورد المنسوجات والمسافر للتنزه على البوسفور ليس صابئا عندما يسافر إلى تركيا، بينما الكاتب يدان؛ لأنه سافر إلى بلاد لا تتوافق مع سياسة النظام المصري، مع أن هذا النظام يستمر في فتح مكاتب شركته القومية للطيران، ويحافظ على عشرات الاتفاقيات التجارية، ويرعى عشرات الموظفين الذين يسافرون إلى بلاد "مدنسة"!
(3)
فكرة "المدنس" فكرة أصيلة في التاريخ البشري، وهي المقابل لفكرة "المقدس". كانت إسرائيل في قلب "المدنس"، وتحرضنا عليها سلطاتنا ليل نهار وتمجد من يحاربها، ثم صارت بعد 40 عاما من توقيع معاهد الاستسلام على رأس"المقدس"، حيث صارت نفس السلطات تروج للسلام الدافئ معها، وتبشر بالرخاء الذي يجلبه التعاون معها، فما الذي تغير؟
(4)
من قرأ "دوركايم" يعرف الكثير عن "المقدس والمدنس"، ويعرف أنهما ثابتان، بمعنى أن "الله مقدس"، و"الشيطان مدنس"، وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن تغييرها إلا بالكفر، وبالتالي فإن انقلاب المدنس إلى مقدس، والعكس، يضع سلطاتنا في مأزق يتعلق بالعقيدة، ليس بالضرورة العقيدة الدينية، ولكن بثوابت العقيدة الوطنية والعسكرية والسياسية. إذا كيف يمكن تفسير هذه التقلبات السريعة للسلطة بين "المقدس والمدنس"؟ كيف تكون إسرائيل عدوا وصديقا على مدار أيام قليلة، في خطاب
السلطة الإعلامي والسياسي؟ وكيف يمكن فهم وضعية أقطار مثل قطر والسودان وسوريا وتركيا وإيران، وأمريكا نفسها، في ثوابت العقيدة السياسية المصرية؟
(5)
سيقول المبررون: حسبة المصالح.. ويضيفون: ليست هناك ثوابت، فكل ما يخدم مصر فهو "مقدس"، وكل ما يضرها فهو "مدنس". لكن هذا التفسير السطحي ينسف ثنائية "المقدس والمدنس" في أصلها العلمي والأنثروبولوجي، ويجعل منها عبارة ميكيافيلية ساقطة تليق ببائعات الهوى، أو بالخارجين عن القانون الذين يبررون مكاسبهم بالقول العامي المصري: "اللي تكسب به.. العب به"، بمعنى إباحة الغش والخداع والكذب والتلفيق والخيانة والخطف والإخفاء القسري والسرقة بالإكراه.. إلخ.
لكن من تعمق في فهم ثنائية "دوركايم" سيكتشف أن هناك "ثالثا" مؤثرا في ثنائية "المقدس والمدنس" أو "الله والشيطان"، وهو "الإنسان"، فلولا وجود الإنسان ما تشكلت الثنائية؛ لأن الشيطان أصبح شيطاناً (مدنساً) نتيجة وجود الإنسان، ولم يكن مدنساً في ذاته، وهذا يعني أن كل ثنائية ينبغي النظر فيها إلى الموقف من الإنسان، فلولا وجوده ما حدث الانقسام.
(6)
مما تقدم نفهم أن الدولة بكل سطوتها؛ تريد أن تعيد تسمية المقدس والمدنس بناء على تأويل نفس الموقف، فتجعله مقدساً مرة لأنها تراه في صالح ناسها، ثم تجعله مدنساً عندما تعتبره ليس في صالح "ناسها". وهذا يعني أن تكون أمريكا هي "الله والشيطان" في نفس الوقت، وأن تكون إسرائيل "عدوا وصديقا" في نفس الوقت، وأن نحترم الدستور وننتهكه في نفس الوقت، وأن نحبس من يترشح للرئاسة ونشكر من يترشح للرئاسة في نفس الوقت، وأن نعادي حماس ونصالحها في نفس الوقت، وأن نمنع هذا من الحديث في "قناة الجزيرة" ونعاقبه على ذلك، ثم ندفع ذلك للحديث ونكافئه على ذلك في نفس الوقت، وأن نحبس من يتلقى معونات من الخارج، ثم تستمر الدولة تتلقي المعونات في نفس الوقت.. إلخ.
(7)
هذا الفصام يعني أن الدولة بلا عقيدة، وأنها تحتكر كل الأفعال لنفسها، وتمنع غيرها مما تفعله، فالإعلام لها، والقضاء لها، والأمن لها، والأموال لها، والرأي لها، وكل هذه الطيبات حلال لها حرام على شعبها.
المشكلة لم تعد في الدولة.. المشكلة أن كثيرا من أصحاب الخبرة والاختصاص والرأي من النخب، صاروا عبيداً لهذه الدولة اللادينية، يحرّمون ما تحرمه، ويبيحون ما تبيحه، والحجة جاهزة دائما: مصلحة مصر.
وهكذا باعت النخبة تاريخ البلاد، ودماء الشهداء، كما باعوا المنطق والسياق، وأصبح "المقدس والمدنس" مجرد لعبة في أيديهم، يهزونها فتتبادل البيضتان التأرجح على طريقة "بندول
السيسي".. تلك اللعبة الموحية التي انتشرت في أيادي الصبية قبل شهور.
(8)
الخلاصة: وسط هذه الفوضى، وتحت أنقاض المعايير، ومادامت الدولة الإله قد تحالفت مع الشيطان، فإن كل شيء يصبح مباحاً: الكذب والخداع والإدعاء والتلفيق والجرائم بأنواعها، حتى الخيانة.. تصبح وجهة نظر معتبرة!
tamahi@hotmail.com