هل ما زالت القبيلة في مصر تمتلك السلطة الفعلية على أرضيها؟
لقد عرفت
المجتمعات الإنسانية منذ القدم أشكالا مختلفة من التنظيمات السياسية؛ هدفت إلى تنظيم حياتها وشؤونها العامة. وقد ازدهرت واتسع نطاقها متجاوزه نطاق الأسرة والعشيرة إلى تنظيم أوسع وأشمل لنمط جديد من التنظيم والسلطة عام في مظهره، وعمومي في توجهه، يمارس بصورة أوسع إدارة وتنظيم شؤون المجتمع، وفق قواعد حددها لإدارة هذه الشؤون، فكان ذلك إيذانا بظهور المجتمع المنظم والمستقر، وكان تطورا لظهور الدولة، حيث أصبح يتواجد كيان جديد يتولى السلطة العامة، ويدير شؤون الحكم والأمن في المجتمع الإنساني.
لقد قامت القبيلة بلعب دور الحارس لكثير من القيم والأصول في المجتمع المصري، إلا أن عوامل الحداثة والتطور والمدنية التي شهدها المجتمع المصري أحدث كثيرا من التغييرات، حيث انصهر الناس وزالت النظرات الضيقة والفوارق العرقية، وعلت قيم التعايش وتبادل المصالح والمنافع، ولكن في ذات الوقت اندثرت كثير من القيم الاجتماعية عموما بسبب التقنية والعولمة التي اجتاحت العالم بأسره، قاصيه ودانيه، ولكن احتفظت بهذه القيم المندثرة الكثير من المجتمعات القبلية في مصر.
ومع دخول الإسلام مصر أصبح من البلاد التي شجعت
القبائل العربية على الهجرة إليها والإقامة فيها، فاستقرت في صحاري مصر واندمجت أيضا مع أهالي الدلتا ووادي النيل، حيث استقر واشتغل بعضهم بالزراعة. فيذكر المقريزي أن الفيوم والبهنسا وأباصير وسخا وأتريب من بلاد الصعيد؛ كانت مساكن ومستقرا لقبائل الهجرة الأولى بعد دخول الإسلام، واستمرت بعض القبائل محافظه على بداوتها التي من أهم مظاهرها كثرة التنقل والترحال، معتمدين على فيضان النيل الذي كان يغمر مصر بالمياه، مخلفا بعد انحساره العديد من البرك والمستنقعات المائية التي ساعدت علي نمو الحشائش والكلأ الصالحة لرعي الأغنام واإبل في الظهير الصحراوي لوادي النيل. وعاش الكثير منهم في صحروات مصر معتمدين على مياه الآبار والأمطار، وأصبحت صحاري مصر مقصد الكثير من القبائل العربية، حيث اتخذوها مستقرا لهم، وبالذات في السنوات الأولى للهجرة بسبب موقعها الجغرافي المميز في طرق التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وأصبحت هذه القبائل الحارس لحدود مصر من الصحراء الغربية إلى شبة جزيرة سيناء إلى الصحراء الشرقية إلى جنوب مصر. وسنتتبع جزءا من تاريخ هجرة القبائل العربية إلى مصر.
كانت القبائل العربية في مصر كبناء اجتماعي وسياسي واقتصادي تمثل السلطة السياسية الرسمية التي تقوم بتسيير أمور القبيلة، عن طريق مجلس قبلي يتألف من مشايخ القبيلة وأعيانها ووجهائها، إلى أن أصبح لها دور فعال في الحياة والعملية السياسية للدولة المصرية منذ نشأتها، فنرى للقبائل العربية التي هاجرت إليها دورها الفعال في الحياة الاجتماعية والسياسية. فعندما نشطت الهجرة العربية في عهد الدولة الأموية، خصوصا بعد استقدام الوالي الأموي عبد الله بن الحجاب بناء على طلب هشام بن عبد الملك، حيث أتى بمئة بيت من نضر ومئة أخرى من بني سليم وأعطاهم أموالا اشتروا بها الإبل والخيول، حيث اشتغلوا بنقل التجار من البحر الأحمر، كما امتهن الكثير منهم بالزراعة.
وبعد سقوط الدولة الأموية هاجرت الكثير من القبائل العربية إلى مصر خصوصا الصعيد في الجنوب وأثناء الدولة الطولونية بدأت القبائل العربية التي هاجرت إلى مصر أثناء حكم الأمويين وحكم العباسيين تهاجر مرة أخرى إلى ليبيا وشمال أفريقيا والسودان. ومن هنا أتى استقرار بعضهم على الحدود الليبية المصرية (الهضبة الليبية)، وعند حكم الدولة الفاطمية لمصر عادت الهجرة العربية إلى مصر من جديد، خصوصا القبائل العربية في بلاد الشام حيث شجعهم الفاطميون للهجرة لمصر، وذلك لتأمين حدودهم الشرقية. وأثناء حكم صلاح الدين الأيوبي قوّى شأن القبائل العربية في مصر، وأصبح لهم شأن في الجيش والحكم، حيث كان لهم موظف خاص بهم لمتابعة شؤونهم يسمى "الحمداني". أما في عهد حكم المماليك لمصر توقفت الهجرة العربية بسبب سوء العلاقة بينهم وبين المماليك، ولكن كان العرب قد بلغوا في مصر مبلغا عظيما، وانتشروا من وجه بحري إلى وجه قبلي حتى بلاد النوبة جنوبا. وأثناء الحكم العثماني لمصر منذ البداية، قامت بالتعامل مع القبائل العربية بود، وأصدروا قانون "نامو سليمان"، والذي أشار في كثير من فقراته إلى السلطات التي منحها لمشايخ القبائل العربية والنفوذ في مناطقهم، وأقر أهمية القبائل العربية وعهد إليهم مهمة زراعة الأراضي وجباية الضرائب نيابة عن الحكومة في المناطق الشاسعة التي يسيطرون عليها، بالإضافة إلى تحقيق الأمن. وفي القرن الثامن عشر كان يطلق عليه العصر الذهبي للقبائل العربية، وبالأدق في عهد شيخ العرب همام، حيث أعطى لهم حقوق الالتزام الوارثين، وهو ما يشبه التمليك لأراضيهم، واكتسبوا سلطات تكاد تكون مطلقة في مناطق نفوذهم.
فتمتاز المجتمعات القبلية المصرية بثباتها النسبي من وجهة النظر الحضارية والثقافية والمجتمعية، ولكن قيمتها السياسية متغيرة بصفة مستمرة وفقا للتطورات والاحداث السياسية التي تؤثر فيها، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. ولهذا سنتناول في هذه السلسلة الثابت والمتغير للمجتمعات القبيلة، والذي يعد من الأسس الهامة التي ينبغي الالمام بها من جميع جوانبها (السياسية والديمغرافيا والطبوغرافيا والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.. الخ)، ويعتبر ذلك أساسا علميا للتأصيل المعرفي العميق والدقيق لفهم تلك المجتمعات، وكيف يتشكل وعيها السياسي ومدى تأثيرها في الحياة السياسية المصرية.
خرائط التوزيع والانتشار للقبائل العربية في مصر
بصورة عامة، سنبدأ بخرائط التوزيع والانتشار للقبائل العربية في صحاري مصر، حيث تشكل الصحراء من مصر نسبة 94 في المئة من حجمها الكلي، وتتواجد فيها غالبية القبائل العربية، والتي تحافظ على كيانها القبلي بجميع مكوناته السياسية الاجتماعية بهذه الصحاري، حيث يمكننا أن نقسم خريطة الصحاري المصرية إلى:
1- شبه جزيرة سيناء.
2- الصحراء الشرقية.
3- الصحراء الغربية.
4- جنوب مصر(بلاد النوبة).
خريطة رقم (1) توضح خرائط توزيع القبائل في جمهورية مصر العربية
وبهذا التقسيم الجغرافي يمكننا أن نضع خريطة ديموغرافية للقبائل العربية في مصر، ويتضح من الخريطة أن القبائل العربية متواجدة في مناطق استراتيجية للأمن القومي، حيث تنتشر على طول الحدود المصرية، ولذلك تعتبر خط دفاع أول للدولة المصرية، فنراها منتشرة في شبة جزيرة سيناء على الحدود الشرقية مع الكيان الصهيوني، وفي صحراء مصر الغربية مع الحدود الليبية، أيضا على الحدود الجنوبية لمصر، ومنتشرة على ساحل من أهم السواحل المصرية، وهو البحر الأحمر، ومنتشرة حول أهم ممر من أهم الممرات المائية وهو قناة السويس.
وفي المقال القادم سأتناول الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في شبة جزيرة سيناء (سلسلة من المقالات عن القبائل العربية في سيناء).