كتاب عربي 21

شرعية النصر!

1300x600
تفاءلت خيراً بثورة يناير، لأنها من وجهة نظري سترد الاعتبار لنصر أكتوبر 1973، الذي استحوذ عليه مبارك، حتى إذا وقع الانقلاب العسكري، تبددت قيمة هذا النصر تماماً!

كان انتصار أكتوبر إلى السنوات الأولى من عهد مبارك، يرمز له بتحطيم خط بارليف، وعبور القناة، لكن مبارك في رحلة البحث عن ذاته، قام باختزال النصر في الضربة الجوية، وهذه الضربة في شخصه، باعتباره كان قائد القوات الجوية، ولم تكن هناك رغبة في مد الحبل على استقامته؛ لأنه لو كان للقوات الجوية دور في المعركة، لكان أحق الناس بالتكريم، هو أول شهيد منها، وهو الطيار "عاطف السادات"، شقيق الرئيس الراحل. وليس هذا المقيم في مقر القيادة، ولكان الطيارين الذين مثلوا مظلة حماية للعابرين للقناة؛ هم من يستحقون التكريم وليس مبارك!

بيد أن الرئيس السابق لم يتوقف دوره عند اختزال النصر في شخصه، فقد مارس تزويراً مفضوحاً، عندما انتزع صورة قائد أركان القوات المسلحة الفريق سعد الدين الشاذلي من الصورة التذكارية بجوار السادات في غرفة العمليات، ووضع صورته هو، وكانت هذه الصورة هي المعتمدة رسمياً في القوات المسلحة على مدى ثلاثين عاماً، ولم يشعر أحد من قوادها بأي انزعاج لهذا التزوير المفضوح!

وفي كل عام كان الحديث عن أكتوبر يبدأ وينتهي بدور سلاح الطيران، وتحية بطل الضربة الجوية، كما لو كانت أدوار الأسلحة الأخرى ثانوية أو مساعدة لمبارك. ومن هنا لم يكن هناك ما يمنع أخلاقيا من سجن رئيس أركان النصر، وبحكم من محكمة عسكرية، ليوضع في حبس انفرادي بسجن عسكري أيضاً!

كانت شرعية مبارك يستمدها من كونه صاحب الضربة الجوية، فلا قيمة لنصر أكتوبر كله إلا في هذه الضربة، ومن هنا لا ينزعج أحد من سجن الشاذلي ومن ترك الفريق الجمسي يعيش حياة بائسة، على النحو الذي رواه وزير الإسكان الأسبق حسب الله الكفراوي، كما لا ينزعج أحد من ترك الحندي مجند "عبد العاطي" صائد الدبابات يعاني الفقر والمرض؛ دون أن يجد اهتماماً أو رعاية من قبل الدولة المحتكر رئيسها لنصر أكتوبر، باعتبارها لم تكن سوى الضربة الجوية، التي هو صاحبها.

وقد سكت "هيكل" ربع قرن على هذا الادعاء، لكنه عندما يتكلم فهي الكلمة الأقوى أثراً من الضرب فوق الرقاب، عندما قال إن نصر اكتوبر لا يمثل شرعية لمبارك، بعد أن انتزع منه شرعية "يوليو"، وقال إن الضربة الجوية عمل من أعمال الوظيفة!

بقيام الثورة، تم تحرير نصر أكتوبر من هذا الإدعاء، وانتقلت مصر إلى مرحلة جديدة، تم خلالها رد الاعتبار لأصحاب الأدوار المهمة، وإن بقي الجندي مجند "عبد العاطي" يكابد ما يكابده، حتى وافته المنية مؤخراً. لقد بدأ الحديث إعلامياً عن الأدوار المهمة في الحرب، ولم يكن أهمها "الضربة الجوية"، بل إن قائداً عسكرياً في أحد الأسلحة قلل من قيمة سلاح الطيران الذي خرج من هزيمة يونيو 1967، في أضعف حالاته!

في أيام الثورة، كانت دعاية إعلام مبارك بعدم إهانة صاحب انتصار أكتوبر، وقد نسي القوم أن من أهان أبطال النصر، هو مبارك نفسه، ومن عينهم في المواقع المتقدمة بوزارة الدفاع، فقبلوا أن يصدر حكم من المحكمة العسكرية التابعة لهم بإدانة "سعد الدين الشاذلي"، كما رضوا بحبسه في سجونهم انفردياً!

وفي مثل هذه الأمور لا يصلح الرد المنطقي، فكانت السخرية هي التي سيطرت على المشهد، فقد رفع الثوار لافتات ساخرة: "ليت الضربة الجوية كانت علينا وحكم هو إسرائيل"!

عامان فقط تم الاحتفال فيهما بنصر أكتوبر، كما كنا نحلم. وفي العام الثاني كان الرئيس محمد مرسي هو من يحكم، فكرم زوجتي القائد الأعلى للقوات المسلحة في حرب أكتوبر الرئيس السادات، ورئيس أركان الجيش الفريق سعد الدين الشاذلي، كما كرم المقدم "عبود الزمر" نيابة عن عمه الراحل اللواء "عبود الزمر"، صاحب فكرة تحطيم خط بارليف، وكان تكريماً عبقرياً، افتقد للإعلام الذي يسوق له!

فبين السادات والشاذلي ما صنع الحداد. وعبود الزمر من الذين اتهموا باغتيال الرئيس السادات. وبعد ذلك تكلمت قرينة الرئيس الراحل، فقالت إنها لا تضمر أي كراهية لمن قتلوا زوجها فقد كانوا شباباً صغاراً، لكن عدلت عن أقوالها بعد الانقلاب العسكري، وتماهت مع الصورة التي روج لها الإعلام بأن الهدف من وجود الزمر هو "مكايدة" جيهان السادات!

وهو كلام قيل حقيقة في إعلام الثورة المضادة إبان حكم الرئيس محمد مرسي، مع عدم وجود إعلام يقدم الدروس المستفادة من هذه الصورة، فضاع أثرها بمحاولة التشهير بالرئيس عن طريق تكريمه لقاتل هو "عبود الزمر"، ومن قوى سياسية لم تكن تعتبر اغتيال السادات عملاً مجرماً، وإنما عمل وطني بامتياز. وتسابق المحامون من كل التيارات السياسية ليشكلوا هيئة الدفاع عن المتهمين، وألقى الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته في مدح خالد الإسلامبولي، في احتفالية بمقر حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. إلخ!

بوقوع الانقلاب، فقد عاد اختزال نصر أكتوبر في شخص، وهذا الشخص لم يشارك في أي معركة عسكرية، فقد شاهد الحروب "فيديو"، وهو عبد الفتاح السيسي. وقد اختزل النصر في المؤسسة العسكرية، والمؤسسة في شخص المذكور، ليواصل "الجندي مجند" عبد العاطي معاناته مع المرض والفقر، وهو ليس ضابطا، وليس عضواً عاملاً في المؤسسة، وقد أوقع 22 دبابة من دبابات العدو، فأُطلق عليه "صائد الدبابات"، وهناك آلاف الجنود مجندين مثله شاركوا في الحرب وأبلوا فيها بلاء حسناً.

بيد أن السيسي كان بحاجة إلى سند، فحل محل مبارك في عملية اختزال النصر، ليصبح هو الوريث الشرعي والوحيد لمن انتصروا، وإن لم يشارك في الحرب!

فتم رفع "البيادة" إلى مرتبة "التقديس"، ومنتعلها إلى مرتبة القديسين، وعلى أساس أن انتصار الجيش في سنة 1973، يجعل الجيش من حقه الحكم، ولا ينازعه في ذلك إنس ولا جان. والحال كذلك، تصبح هناك ضرورة للسؤال عن من يدفع ثمن هزيمة يونيو وما أنتجته من آثار، أخصها احتلال الأراضي العربية، ومن غزة إلى سيناء، إلى الجولان، ولا تزال الجولان محتلة إلى الآن. أما غزة، فلم يحررها نصر أكتوبر، وقد عادت محاصرة، في حين أن سيناء عادت منقوصة السيادة!

وإذا كان التوظيف المبتذل لنصر أكتوبر ينسب للشعبويين، فقد تراجع توظيفهم الآن، حيث وجد السيسي نفسه زاهداً في هذا النصر!

فقد وجد نفسه في مواجهة اثنين ممن شاركوا في أكتوبر التي لم يشارك هو فيها، وأحدهم انطلق من فوق هذه الأرضية ليعارضه، والثاني وجد في دوره العسكري ما يؤهله للرئاسة، فاعتقلهما وهما "سامي عنان" و"معصوم مرزوق"!

ثم إن روح أكتوبر تعلي من قيمة الأرض، وهو من فرط في تيران وصنافير، ولديه رغبة في التفريط في أراض مصرية كثيرة من الوراق إلى مثلث ماسبيرو، فلا بد من تجاوزها! هذا فضلا عن أن الاحتفال بنصر أكتوبر يستدعي الحديث عن الجانب المهزوم، وهو لا يريد أن يغضب أصدقائه في تل أبيب، وفي كل عام يأتي خطابه باهتاً مفتقداً لأي قيمة، ويكون الحديث عن النصر فيه في سطرين، دون ذكر اسم من انتصرنا عليهم وكأنه كان انتصاراً على النفس!

لقد سقطت شرعية النصر، لحسابات السيسي المرتبكة، فهو يستمد شرعيته من هناك، حيث نتيناهو وحيث المقيم في البيت الأبيض مهما كان اسمه.

نحن أولى بنصر أكتوبر من عبد الفتاح السيسي!