هناك قوم سخروا حياتهم لحراسة المعبد والدفاع عن "حرمته"، حتى لا يخترقه الغرباء والمندسون. والمعبد معابد، منها ما هو مادي تؤدى في داخله طقوس التعبد لأصحاب الديانات بمختلف أنواعها، الإبراهيمي منها أو غير السماوي، ومنها ما يحيلك إلى فكرة ما لا تحدها مساحة ولا يعبر عنها رمز، ولكنها تحاط من قبل البعض بنوع من القداسة والتعصب الشديد.
لا يثق "حراس المعبد" في أي غريب، خاصة إذا كان قادما من "معسكر العدو"؛ لأن علاقتهم بهذا المعسكر هي علاقة حرب دائمة لا تعرف الهدنة أو التسويات المختلفة، ولا يقرون حتى بوجود احتمال مهما كان ضعيفا جدا في إمكانية حصول مصالحة مع المتحصنين بالمعسكر الآخر. كما يعتقدون اعتقادا جازما بأن معسكر العدو يشبه كثيرا جبل الصوان.. إنه صلب لا يقبل التجزئة أو تعدد المواقف والآراء، والخارجون منه وعنه ليسوا صادقين بالضرورة في توجهاتهم، مهما غيروا وبدلوا في أفكارهم وعقائدهم. إذ يستحيل أن يبرأوا من "العاهة" التي أصيبوا بها داخل المعسكر، بل إن هؤلاء الحراس يعتبرون أن هذه "العاهة الأيديولوجية" غير قابلة للعلاج، مثل سرطان الدم - عافانا وعافاكم الله - يقتل صاحبه قبل أن يعالج منه. ومنهم من يذهب إلى أكثر من ذلك، حيث يعتبر أن هذه العاهة موروثة تولد مع ساكني هذا المعسكر، وتنقل إليهم عبر انتقال النطفة في رحم الأمهات. وعلى هذا الأساس يرفع حراس المعبد الشعار التاريخي في حربهم ضد خصومهم الأبديين: "لا صلح لا تفاوض لا اعتراف".
من بين الوسائل البغيضة التي استعملها نظام ابن علي ضد معارضيه ما كان يعرف بـ"الحراسة اللصيقة" لهم. فالمعارض يجد نفسه باستمرار تحت الأضواء الكاشفة، لا يحق له أن يستظل بأي ظل، وإذا ما حاول أن يبتعد عن مجال الرادار فسيفسر سلوكه بكونه يستعد لتنفيذ مؤامرة ما ضد الدولة وحاكمها.. هكذا شأن "حراس المعبد" مع المضنون فيهم، يراقبونهم بكل "حزم"، ويعدون عليهم أنفاسهم، ويتربصون بهم في كل خطوة أو منعرج أو زاوية، ولا يتركون لهم المجال للإحساس بالإطمئنان أو الشعور بالأمان. ويكفي أن يخطئوا في العبارة أو يستعملونها في غير السياق الذي ورد في القاموس المرجعي للمعبد، عندها تطلق صفارات الخطر، وترتفع الأصوات من كل ناحية، وترتسم على وجوه الحراس ابتسامة النصر، ويرددون جماعيا: "لقد كشفناه.. ألم نقل لكم بأنه مشبوه، وأنه لا يشبهنا، وأنه مندس، وأن لا صلة له.. بالحداثة".
هنا نصل إلى بيت القصيد: ما هي هذه
الحداثة التي حولها البعض الى معبد، ونصّبوا أنفسهم حراسا له؟
هناك عشرات المغالطات التي تمت فبركتها من أجل احتكار الحداثة بعنوان الدفاع عنها، أيضا من أجل التحكم من خلالها في الدولة والمجتمع.. الحداثة مسارات وليست مسارا واحدا، والحداثة قيم وليست قيمة واحدة، والحداثة مشروع مفتوح؛ وليست كما يدّعي هؤلاء الحراس قفصا ذهبيا مغلقا يملكون وحدهم مفاتيحه ويحتكرون معرفة مداخله ومخارجه.
من قال إن الحداثة تحتاج إلى معبد، في حين أن من أهم قيمها التعدد والتنوع ورفض التحنيط والنمذجة المطلقة؟ إن الذين يدعون ذلك لا يميزون بين الحداثة والعولمة: الأولى انفتاح وتجاوز وإيمان بالفرد وحريته، في حين أن الثانية قولبة حديدية للعالم، وسعي دؤوب لكسر جدرانه الثقافية حتى يصبح سوقا محكومة بآليات تقوم على الإدماج والعقلانية الظاهرة. ومن ادعى بأن الحداثة تختزل في ثقافة واحدة، فإنه بذلك القول قد سقط في الفخ الذي يريد أن يوقع فيه خصومه؛ لأن الحداثة في عمقها ثقافات، وهي في الآن نفسه حوار جدلي بين الثقافات. ومن ينفي ذلك عليه أن يعيد قراءة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، خاصة تلك التي نصت وأوضحت مسألة الحق في الثقافة، وحددت الإطار النظري والاجتماعي والحقوقي لممارسة الخصوصية.
كلمة أخيرة.. الحمد لله أن عدد حراس "معبد الحداثة" في تناقص مستمر.. وقد توفرت لي شخصيا مناسبات عديدة في حياتي؛ اشتغلت فيها مع حداثيين تحرروا من عقدة الوصاية على غيرهم، مما جعلهم أكثر انفتاحا وأكثر استعدادا لقبول المختلف معهم، مما وفر الأرض الصلبة للقيام بخطوات مشتركة كانت في مصلحة البلاد وفي مصلحة المواطنين. كانوا حداثيين ولكن بدون معابد.