حلم الدولة الاجتماعية الذي كان يرفرف في سماء ثورة الحرية والكرامة سنتي 2011 و2012؛ تلاشى في غبار المعارك الغريزية بين مكونات النخبة
التونسية. هذه خلاصة بائسة لما آل إليه الوضع الآن في تونس، حيث نفاوض مرغمين على تحسين وضع التبعية ضمن شروط المقرضين الدوليين، ونود لو أنهم يخففون الضغط قليلا لنحتفظ بمؤسسات القطاع العام التي توفر الماء والكهرباء وبعض وسائل النقل العام والنقل الجوي، والتي ينظر إليها المقرضون الدوليون كعوائق اقتصادية وليست روافد لفقراء القوم يجدون فيها بعض الخدمة المدعومة.
الوضع بائس بعد الحلم الجميل، والذي يزيد الأمر بؤسا أن كل خطاب النخب السياسية يدافع عن مؤسسات القطاع العام وعن حماية ميزانيات الفقراء، ولكنه يفاوض سعيدا على بيعها، وفي مقدمة الباعة نجد النقابة التي خربت القطاع العام باسم حمايته، ولم تجرؤ على المساس بمؤسسات القطاع الخاص التي تعمل في غالبها كمؤسسات نخاسة. الجميع يشتغل سمسارا عند البنك الدولي، ويكذب علينا باسم دولة اجتماعية ليورط غرماءه السياسيين في الخيانة. كلهم يبكون، ولا أحد اعترف بسرقة المصحف.
كيف وصلنا إلى القبول بحكومة الشاهد؟
كنا في مسار انحداري منذ البداية إذ وضعتنا المنظومة بين احتمالات الفوضى أو الرضا بالسلم تحت حكمها. معادلة شريرة ومهندسة بدقة. بدأت بظهور الإرهاب وتدعمت بالاغتيالات السياسية المتقنة ثم عادت إلى الإرهاب وهاهي لا تزال تستعمله وآخر علمياتها عملية غار الدماء على الحدود الجزائرية التي استهدفت فرقة من الحرس الوطني.
في هذا المسار عجزنا عن مقاومة الفساد المالي والسياسي والإداري الذي مكّن لمنظومة ابن علي، وهناك إجماع في تونس على أنه كلما اقترب الحديث من محاسبة أو مقاومة فساد انفجر الوضع الأمني بعملية إرهابية، بحيث تجد الحكومات نفسها بين خيار الحفاظ على الحد الأدنى الأمني (ضمن شروط البيع والارتهان) أو الانهيار.
النقد يوجه هنا إلى
الأحزاب السياسية جميعها وليس إلى مكونات منظومة الفساد، إذ لا معوّل عليها في أن تصلح ذاتها بذاتها وتفيء إلى القانون. فالأحزاب جميعها (من اليمين واليسار) متفقة على هذا الربط، ولكنها تدعمه بطرق ملتوية لتجني منه مكاسب مؤقتة في إطار صراعاتها التي أصفها بالصراعات الغريزية المتوحشة.
أول الخاسرين في هذه الصراعات هو مشروع الدولة الاجتماعية التي كان الجميع ولا يزال يتغني بها. فالصراع مع منظومة الفساد عبر التواطؤ معها أو تجاهل مكانيزمات عملها التخريبية؛ أدى إلى تأجيل المطالب الاجتماعية الملحة ثم إلغائها، لكن (وهذا سبب بؤس اللحظة الراهنة) خطاب الأحزاب لا يزال يدعي العمل على هذه الدولة الاجتماعية المتخيلة.
اليسار يقف في أقصى اليمين
كان اليسار التونسي سببا رئيسيا في قطع الطريق على حكومة الترويكا غير ذات البرنامج الاجتماعي. وعوض دفعها إلى اليسار لتمهد الطريق لإصلاحات اجتماعية؛ بعضها ورد رغم كل شيء في الدستور المجمع عليه، فإنه تحالف مع مكونات المنظومة القديمة في اعتصام الرحيل بما مهد لإغلاق قوس الترويكا وإعادة حزب النداء (حزب المنظومة
الليبرالية الفاسدة اليمينية بامتياز) إلى سرج الحكم. وكانت نتيجة انتخابات 2014 نتيجة طبيعية ومنتظرة لاعتصام الرحيل الإنقاذي.
لم تجد الساحة معارضا حقيقيا لليبرالية العائدة بقوة، بل ظل اليسار يساندها عبر توجيه الصراع السياسي نحو المسألة الهووية، بما دفع حزب
النهضة الإسلامي نحو اليمين أكثر فأكثر، جاعلا من إنقاذ الحزب من الاستئصال أولوية هانت دونها مطالب الدولة الاجتماعية، فوجدنا حزب النهضة الفقير ينحاز ضد قواعده المفقرة، ويدعم كل خيار ليبرالي سارت فيه حكومات ما بعد 2014.
لقد انكشفت يسارية اليسار التونسي، فهو غير مشغول بالدولة الاجتماعية وإن اصطبغت خطاباته بخطاب اشتراكي، بل ذهب في بعض خطابات أول الثورة إلى حد المطالبة بإلغاء الديون الخارجية المتخلدة من زمن ابن علي. وكان تركيزه على مسألة السيادة الوطنية يوحي بحركة ثورية، لكنه في زمن الخطاب الثوري الاشتراكي يستعيد حرب الهوية، واضعا نصب عينيه تصفية خصمه السياسي الإسلامي الذي يمعن هربا؛ فيمعن في الليبرالية ويقدم السند السياسي لها فلا تنهار.
لقد انكشف أيضا أن الحزب الإسلامي الهوى لا ينتج أي خطاب في البدائل الاقتصادية؛ سوى ترديد ممل لخطاب الحفاظ على مكتسبات الدولة الاجتماعية مثل التعليم العمومي والصحة العمومية. لكنه يستنكف عن الخوص فيها، وهو في الحكم ولو كخطاب مؤجل التنفيذ. حالة وحيدة بدت الآن يتيمة ودخلت التاريخ، وهي محاولة وزير الصحة في حكومة الترويكا (عبد اللطيف المكي) الذي فكر في تمهيد تعليم الطب للمناطق الداخلية ووضع برنامجا لتقريب الخدمات الطبية الخاصة من مستحقيها في الأطراف البعيدة الشقية بفقد الأطباء. لكن من غرائب الممارسات السياسية؛ أن اليسار المتمكن من النقابات وقف ضد هذا المشروع الاجتماعي، وأغلق تقريبا المرفق الصحي العام، فانهار المشروع ولم تعد النهضة لذكره (وهي شريك حكم) كأنه لم يكن.
البنك الدولي العدو الجميل
الجميع يلعنه والجميع يتقبل أوامره.. الحكومة أولا والنقابة قبلها. فقد صدر عن ممثله المكلف بتونس أن النقابة ترحب ولم تبد أي اعتراض على مقترحاته (هو لا يقول إملاءات من قبيل التهذيب).
كل خطاب مكونات اليسار تقوم على رفض الخضوع للاملاءات، لكن الممارسة السياسية اليومية لم تنتج رفضا في الشارع ولا في النقابات، بل أن العكس هو الذي عايناه. اشتراكية في الخطاب ويمينية في الممارسة.. اشتراكية أو يسارية رفع العتب واستدرار الشفقة بالتظاهر بمحبة الفقراء، (الأمر يشبه المزايدة بقضية فلسطين لا للذهاب إلى تحريرها، بل لتوريط خصم سياسي في التطبيع ثم الوقوف عند تسجيل الموقف)، وإلا كيف نفسر الآن وهنا انحياز النقابة اليسارية إلى أشد أطراف السلطة يمينية، وهو ابن الرئيس الذي يحظى بدعم كل طبقة المال الفاسد الذي تقاومه الثورة؟
لننظر في خريطة الفاسدين وتوزعهم القطاعي والجغرافي، سنجد أنهم خلاصة الفساد اليميني الذي أفقر البلد، ولكن النقابة تقف في صفه. لماذا هذا التناقض بين الخطاب والممارسة؟ مرة أخرى نكتشف حرب الاستئصال التي هي البرنامج الوحيد لهذا "اليسار اليميني".
لننظر في توقيت تقرير الحرية والمساواة.. ليس فيه أي حديث عن العدالة التي تضمن حرية الأفراد، إذ يعزل الحرية الفردية عن سياقها الاقتصادي، وهي مغالطة في الجدل تسبق حرية الجسد الفرد على حقوقه الاقتصادية، وهي أطروحة ليبرالية بامتياز، بل هي آخر تقليعات اليمين التي تصرف الناس عن نقاش حقوقهم الاقتصادية المهدرة برأس المال المعلوم، وتجرهم إلى نقاش حاجاتهم الجنسية المشيئة في اقتصاد السوق.
أين يقف اليسار والنقابة وبقية شخصيات اليسار؟ إنهم يدفعون التقرير ليتحول إلى نصوص قانونية تطبق على شعب مسلم محافظ وفقير. والسبب هو حشر الخصم الأيديولوجي في زاوية ليرفض التقرير فيتألب عليه الممولون الدوليون. والذين صار حرصهم على تحرير الفرد في جسده أكبر من حرصهم على تحريره في مصدر رزقه.
يكفي كذبا اشتراكيا
اليمين يمين لا خلاف في ذلك. لا أحد انتظر من حزب النداء وريث منظومة لصوص المال العام ولا الحكومات التي كلفها أن تحول البلد إلى ديمقراطية اجتماعية. وقد وجد حزب النهضة مهربا جميلا بذريعة التوقي من الاستئصال، فلم نعرف أيمين هو أم يسار. ومن المؤكد أن كتاب "اشتراكية الإسلام" لم يعد من مراجع الحزب ولا برامج التكوين داخله، خاصة بعد العشق الكبير لخزعبلات التنمية البشرية المتفشية في حلقات التكوين الداخلي، وهي ثقافة ليبرالية مثيرة للشفقة. ولا شك أن مسار مساندة ليبرالية النداء عبر التوافق معه في الحكم لن يمر دون يترك بصمة ليبرالية يمينية عميقة على تفكير كوادر الحزب ونخبه المغرمة بمواقعها الخاصة قبل مصلحة البلد.
إذن من بقي على اليسار؟ إني لا أرى أحدا، لكني أسمع خطابات يسارية كثيرة كأنها صدى طبول كبيرة في فراغ رهيب. إنها إحدى بركات الثورة الغربال التاريخي يصفي الجميع ويمحص الأفعال من الخطاب ويكشف الكذب وخاصة منه الكذب الاشتراكي. آه لقد سرقوا المصحف، لكنهم غفلوا أن عندنا نسختنا البديلة.. إن بكاءهم الزيف.. إن بكاءهم اشتراكي.