بشيء من الدقة، علينا قراءة السياسة، والابتعاد عن المظاهر الشعبوية في التعاطي مع قضية
القدس. ومهم أن ندرك أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أحدث، وللمرة الأولى، انقساماً حول
إسرائيل، التي كانت طوال السنوات الماضية تشهد حالة من شبه الإجماع الغربي حولها، وبالتالي أعاد هذا الأمر طرح القضية
الفلسطينية بشكل جديد ومختلف أمام الرأي العام العالمي، بأنها ليست مجرد قضية وطنية، وإنما هي قضية إنسانية تمس وجدان العالم على اختلافه.
وبشيء من الوعي، علينا تقييم الموقف الأمريكي من مسألة نقل السفارة إلى القدس، فلدى الأمريكان برامجهم السياسية، وليس صحيحاً ما نشاهده في بعض وسائل الإعلام من أن ما يحدث في أمريكا هو نوع من التحول الديني تجاه المنطقة.
فما يجب أن ندركه، ونستمر بالعمل عليه، هو أن نُبقي صراعات المنطقة مجرد صراعات سياسية في أذهان شعوبنا، وهذا الموقف بالطبع ليس جديداً، فهذا الموقف بناه وأسس له صلاح الدين الأيوبي، الذي بذكائه، نجح في طي صفحة مأساوية من حروب المنطقة، وأخرج القدس من أزمة الصراع الديني وجفف منابع الحروب حولها.
ما فعله ترامب هو أنه قام برمي ملف القدس الثقيل جداً في حضن إسرائيل، والتي بدورها عليها أن تتحمل هذه المشقة، لذلك هي الآن تائهة ومشتتة، وسوف تستمر هذه الأزمة في التصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته، وسوف تنقله في مرحلة مقبلة إلى صراع داخلي، بين القوى المتدينة التي تريد التمدد بهذا الأمر وتحويله إلى انتصار تاريخي، وبين بقية المجتمع الإسرائيلي الذي سيرى في الموضوع مجرد أزمة ثقيلة لا يمكن الاستمرار في تحمل تبعاتها المستقبلية؛ لأن إسرائيل (هنا) التي تعتبر نفسها ديمقراطية، ستبدأ بالتمدد والاستيلاء على الممتلكات وفق قواعد دينية، وهو ما تخشاه القوى العلمانية في إسرائيل؛ لأن ذلك سيؤدي إلى حالة من الانفجار داخل الكيان الإسرائيلي، فعدد الفلسطينيين داخل الكيان الإسرائيلي بات يفوق عدد السكان اليهود، وبالتالي كيف ستصمد هذه الدولة وما هو شكلها القادم.
الآن إسرائيل تبحث عن دبلوماسية واسعة، عربية وأجنبية، بغية توسيع دائرة علاقاتها السياسية، ولكن كل هذه الدبلوماسية التي تتجه نحوها إسرائيل هي دبلوماسية ضيقة، غير قادرة على التأثير على السياسة الدولية من جانب، ولا حتى الإقليمية منها، ما يعني أن إسرائيل في المرحلة المقبلة ستجد نفسها مضطرة لطرح صفقات سياسية متعددة الغايات، والهدف منها إقناع الدول الغربية بالقبول بصفقة القدس.
ما يفيد الفلسطينيين في ظل الظروف المعقدة حالياً، هو الاتفاق معاً على برنامج (سياسي تفاوضي) برعاية دولية، وما دون ذلك سوف تبقى غزة محاصرة، وهذا البرنامج من أهم ضرورات السياسة الفلسطينية في هذه المرحلة.
القدس اليوم وغداً هي عنوان (غربي أيضاً) وأزمة خانقة لإسرائيل، التي عليها مواجهة الواقع الجديد.