هشام
جنينة... أحد الأسماء البراقة في سماء المجتمع
المصري في السنوات الأخيرة، فهو الرئيس السابق لأحد أهم الجهات الرقابية في مصر كما هو المفترض (الجهاز المركزي للمحاسبات)، ومنذ سنة ونصف كان محور اهتمام الجميع عندما حمل حقيبته من أجل التحقيق معه في النيابة.
طوال هذه الفترة تخرج رسائل من هذه الأحداث، وهي ليست متعلقة فقط بشخص هشام جنينة، ولكنها بالأساس تتعلق في نمط ما من التفكير؛ مرتبط بكل الموجودين في منطقة السلطة وما حولها. ويبدو أننا نحتاج من وقت لآخر لتكرارها، فلا زال حجم الضغط على العقل الجماهيري كبير جدا، ويحمل أطنانا قديمة من الزيف تحتاج للكثير من التدفق حتى تتخلص من الأوهام.
الرسالة الأولى: عندما أكد محاربة د. مرسي، رئيس الجمهورية المخطوف، للفساد؛ أثناء العام الذي حكم به قبل اختطافه، وهي رسالة محايدة من موظف كبير بالدولة، تقرأ الملفات والأوراق وتعرضها دون تحيز. ولا ننسى أن هشام جنينة كان أحد رموز تيار استقلال القضاء الشهير.
المهم في تلك الرسالة أنه بالرغم من إدراكه الكامل برغبة د. مرسي في حل أزمات مصر ومحاربة
الفساد، لم يدافع عنه، بل كان محايدا. فهو جزء من ماكينة كبيرة عاش فيها عمره، وفي الغالب يصعب على أي أحد الخروج من دائرة "الحياد"، وهذا النوع في الغالب غير قادر على المواجهة.
الرسالة الثانية المتعلقة بجنينة: عندما أعلن وجود فساد بـ600 مليار جنية مصري في عام 2015. بالتأكيد إن كان كلامه صحيحا، فهو يمتلك من الوثائق التي تعضد ما يقول، إلا أنه بالرغم من التحقيق معه حول ما هو منسوب إليه؛ لم يعرض شيئا. وهذا يقودنا إلى احتمالين؛ إما أن يكون كلامه كذب، وهذا احتمال ضعيف، أو الاحتمال الأقوى أنه - كسائر رجال القانون – لا يستطيع تقديم قيم العدالة على النصوص والإجراءات، فلا يمكن إعلان عن وثائق تدين أحدا أو تثبت فساد سوى عن طريق المسار الإجرائي الصحيح. لنتذكر ذلك جيدا، سنعود له بعد قليل.
الرسالة الثالثة حول انتفاضة تيران وصنافير: بدأت قضية تيران وصنافير في الظهور في نيسان/ إبريل 2015، وأحدثت حالة من الزخم الكبير بلا شك؛ فهي المرة الأولي في تاريخ الدول القومية - على حد علمي - أن تقوم دولة بالتنازل عن أرضها لصالح دولة أخرى بلا أي سبب (معلن). ولم يستطع البعض الاستمرار في مسار تأييد قائد الانقلاب، وبدأ المحايدون (وهم من يهموننا في هذا المقال)، ومنهم هشام جنينة وربما عنان؛ في الرفض، وما أراه أن هذا الرفض غير مرتبط إلا برؤية من داخل منظار السلطة، فهو ومن على شاكلته يرفض التنازل عن الأرض من منطلق حق الدولة وليس حق الشعب، وهناك فارق كبير.
ولنتذكر أنه قرر أن يكون محايدا عندما انتُهك حق الشعب واختُطف الرئيس المنتخب، وقرر أيضا أن يكون محايدا وإجرائيا عندما أغلق ملف الفساد الذي أعلن عن وجوده، ولكنه في تلك اللحظة خرج عن حياده، مما يدعونا لضرورة المقارنة بين مواقفه ومحاولة فهم كيف يفكر الموجودون في دائرة السلطة، وأنهم حتى لو كانوا يحملون قدرا من الشرف؛ فهم لا زالوا هناك ولن يكونوا معنا.
الرسالة الرابعة، دعم عنان: خرج عن حياده مرة أخرى وأعلن دعمه لمرشح يبدو أنه يمتلك قدرا من أوراق الضغط والقوة، ولكنه أحد الموجودين بمنطقة السلطة، وبالرغم من القبض على عنان، إلا أنه لا يزال على موقفه. يبدو أن قواعد اللعبة في الصراع مع الشعب تختلف عن صراع ديناصورات النظام، فالأول يُسحق فورا دون رحمة إذا حانت الفرصة، وتتملقه السلطة الضعيفة حتى تقوى، وهذه الطريقة دائما معلنة ومرئية؛ وإذا خسرت الشعوب لحظات فارقة في صراعها، فإنها تُسحق في الغالب. أما الصراع بين الديناصورات فهو غير واضح ويدور في دهاليز السلطة، ويحتاج إلى وقت كي يحسم ولكن في النهاية (وهي ليست بعيدة) يحسم بالضربة القاضية لأحد الأطراف.
يدرك جنينة (بحكم وجوده الطويل في منظومة السلطة) هذه الأمور، ولا زال يراهن على عنان. وبالتأكيد لا يمكننا إدراك كل أبعاد الصراع الخفي، إلا أن الدبابة لا تزال صاحبة الكلمة العليا في الصراع وستكون هي الحاسمة.
الرسالة الخامسة، ما قاله بالأمس حول مستندات تحت الطلب: هذه الرسالة هي الرسالة الأوضح التي أظهرت تماما كيف يفكر هؤلاء، وأكدت أن كل الصراع في منطقة بعيدة تماما عنا. فهشام جنينة (النموذج الجيد في ذهن البعض) أكد أنه لا يرى المئة مليون مصري؛ لكن عينيه وعقله مع شخص واحد يمثل تيارا ما داخل النظام؛ يحاول فرض وجهة نظره لحماية الدولة التي لم يعد الشعب جزءا منها.
إن هذه هي الحقيقة منذ زمن بعيد، وأعتقد أنها كانت كذلك حتى في انتفاضة القضاة في 2006 وما تلاها، فلم تكن في صالح الشعب، ولكن كانت صراعا ما في منطقة بعيدة تعتبر دائما الشعب - كل الشعب - مجرد أدوات في هذا الصراع، ولم تعتبره أبدا عنصرا أو طرفا أصيلا فيه.
إن ما قاله هشام جنينة حتى لو كان غير حقيقي - كما قال أحد معاوني عنان - فهو يعبر عن نمط تفكير متوطن في ذهن جميع من ينتمي للسلطة في مصر، وخاصة ذوي الخلفية القانونية. ففكرة النظام والإجراءات والدولة تتجاوز بكثير مفاهيم العدالة وحق الشعب، ومع طول الزمن والاستبداد؛ يختفي الشعب تماما ويصبح أداة للحفاظ على الدولة والنظام الذي يصبح مرادفا للأفراد أنفسهم. وقد أكد جنينة ذلك عندما أعلن عن وجود مستندات يهدد بها النظام؛ فجأة نسي التزامه بالإجراءات عندما خرج الشعب من المعادلة وأصبح الصراع في مساحة السلطة. الآن يمكن الحديث عن العدالة بعيدا عن الإجراءات، "فالدولة في خطر"، وترجمتها أنا في خطر. فالشعب في خطر لا يهم، العدالة في خطر لا يهم، أما الدولة والأنا فهو فقط المهم.
نحن نمتلك عشرات الآلاف من
السيسي بأقنعة مختلفة ودرجات مختلفة، واستطاعت السلطة عبر تاريخها الطويل ترسيخ مفهوم السيسي في العقول وخاصة داخل بنية السلطة، ولذلك فالبحث عن بديل في هذا المكان هو تأكيد لحق السيسي في الوجود، ولو كان بقناع جديد.