كتاب عربي 21

السقوط العمودي في "الأدب" الإعلامي (1)

1300x600
علمونا في المدارس والجامعات، أن الأدب العربي (وكان الشعر في المناهج الأكاديمية هو كل "الأدب") مر بعصر النهضة، ثم عصر الانحطاط، ثم العصر الحديث، وجاءت هذه العصور مستقلة عما أسماها النقاد بالعصور الجاهلية/ صدر الإسلام/ الأموي/ العباسي. 
 
ومن الواضح أن هذه التسميات لا تصف جنس الأدب (ظلت الكلمة وإلى عهد قريب تعني "الشعر"، لأن الأدب العربي لم يعرف الرواية والمسرحية، إلا قبل أقل من مائتي عام، وإن كنت تجد من يقول إن كتاب أبي العلاء المعري "رسالة الغفران" عمل روائي، استلهم منه دانتي ملحمته "الكوميديا الإلهية"). 
 
المهم، أن تلك التسميات تقسم الأدب/ الشعر إلى مراحل تاريخية، وليس وفق المعايير النقدية التي صارت متعارفا عليها، ونجد تصنيفا مشابها في الأدب الإنجليزي، فهناك العصر الإليزابيثي والآخر الفيكتوري وهلم جرا.
 
ومن ناحية أخرى، فرغم احتفائنا بتدمير اللات والعزى ومناة وهبل، باعتبار أن القضاء على تلك الأصنام يمثل نقلة كبرى وفاصلة في تاريخنا، وفي ثم تاريخ البشرية، إلا أننا ما فُتئنا نقيم أصناما من لحم ودم في كل مجال، ونضفي عليها قدرا من القداسة يجعلها فوق النقد. 
 
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فعلى كل عربي "وطني" أن يقبل بأن تاريخ النضال الفلسطيني الفعلي بدأ بياسر عرفات وانتهى به، (وإن اختلف الرواة- الحواة حول ما إذا كان محمود عباس- أبو مازن، أو محمد دحلان، هو حامل لواء العرفاتية).
 
ولقرون عدة، ظل قدامة بن جعفر (مات قبل أكثر من ألف عام) هو المرجعية لنقد الشعر، فيتم تقويم/ تقييم كل قصيدة في ضوء معايير النقد التي وضعها قدامة هذا في كتابه "نقد الشعر"، وبذلك صارت كل قصيدة تخالف المواصفات القياسية التي وضعها قدامة "منحطة"، ثم بأسلوب "هات م الآخر" صارت الفترة منذ نهاية العصر العباسي، وحتى سقوط الدولة العثمانية، توصف بأنها، بكاملها عصر الانحطاط في الأدب.
 
ومن بين أسخف التبريرات لانحطاط الشعر على مدى قرون عدة متتالية "سوء الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعيّة، حيث انتشر الفقر والمرض، والإحساس باليأس والملل!! ما صرف الناس عن الاشتغال بالأدب إلى مهن أخرى، فكان منهم الجزار والخباز والعطار إلخ"، وإليك هذا التبرير/ التفسير المفجع: عدم تشجيع الخلفاء والحكام وذوي الجاه للشعراء بالمنح والعطايا كما كان يفعل أسلافهم.
 
في سودان اليوم، هناك عبارة بليغة متداولة تلخص مدى تفشي شراء الذمم، وتسيير المصالح بالرشوة: الكاش يقلل النقاش، ويبدو أن السودانيين تأخروا في سكّ هذه العبارة.
 
 فعلى ذمة النقاد تلاميذ قدامة بن جعفر، فقد كان الدرهم هو الملهم للشعراء: تدفع نمدح، وبدون كاش لن نقول حتى غزلا في النساء، ولن نتغنى بجمال الطبيعة، ولك أن تتساءل: هل عانى الشعر أم النقد من الانحطاط؟
 
في العنوان أعلاه تجد عبارة "الأدب الإعلامي"، وحتى فيفي عبده تعرف أنه لا يوجد أدب إعلامي، بالمعنى الاصطلاحي لكلمة "أدب"، ولكنني عنيت بالأدب حسن الخلق، والعبارة والسلوك، فيكون هناك شخص مؤدب وآخر قليل/ عديم الأدب.
 
ورغم رفضي التام لتحكيم قدامة بن جعفر في شؤون الشعر والأدب (رغم أنه مؤسس علم البديع، وكان كاتبا فذا ودارسا للفلسفة والمنطق)، إلا أنني (جعفر) أتوكل على الله، وأقول نقدا في الإعلام العربي في عصرنا الراهن، مؤداه أنه لم يبلغ شأوا "عاليا" في الانحطاط فحسب، بل سقط عموديا في المستنقع الآسن ذاته الذي ينهل منه.
 
نعم، لا يوجد "أدب إعلامي"، ولكن توجد آداب إعلامية، هي عبارة عن ضوابط تواطأ عليها الإعلاميون، والتزموا بها بدرجات متفاوتة، بحسب هامش التعبير وإبداء الرأي المتاح في كل بلد. 
 
والركن الأساسي لتلك الضوابط هو حسن الأدب، لأن الإعلامي بالضرورة "معلم"، فجذر الكلمة هو "علم، يعلم، تعليما/ إعلاما"، ولارتباط كلمة "التعليم" بالمدارس، رأى رواد الصحافة العربية (وهي نواة الإعلام الحديث)، اشتقاق كلمة إعلام من ذلك الجذر.
 
والإعلام بمفهومه الحديث صناعة غربية، وبكل لغات الغرب، فإنها تعني على وجه التحديد "information" وجذر الكلمة "inform"، وهي الإبلاغ، وتوصيل المعلومة/ الخبر إلخ، والإبلاغ والتبليغ أمانة ومسؤولية.
 
انظر ماذا وكيف كان تكليف الرسول محمد عليه السلام المؤيد بالوحي: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" و"فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" [الرعد : 40]، و"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"[الغاشية: 21، 22].
 
حامل الرسالة السماوية المكلف بتوصيلها، ما عليه سوى التبليغ، مع الإبانة والتوضيح والشرح بالأدلة والبراهين، وبعد أن يتلقى العباد البلاغ يكون "المبلِّغ" قد أدى دوره كاملا، وبعدها فمن شاء فليصدق ما جاء في البلاغ، ومن شاء فلينكر، لأنه ليس عليهم بمسيطر، وأمر الحساب متروك لمصدر الرسالة /البلاغ (الخالق جلّ وعلا).
 
ورسالة الإعلامي ليست في جلال وعظمة وأهمية الرسالة المحمدية، ولكنها تظل "رسالة"، يحاسب من يضطلع بها في الدنيا من قِبل الجمهور المتلقي (ثم يتم عرض كشف حسابه الختامي الإجمالي في الآخرة).
 
كل ما سبق توطئة للحديث عن الحال المتردي للإعلام العربي، خاصة في السنوات الأخيرة، ولا أتحدث هنا عن القنوات الفضائية التي تبث مواد تنقض الوضوء، بل وتوجب الغسل، ولا عن قنوات الشعوذة والدجل والتدليس، بل عن قنوات تزعم أنها تتخصص في تناول شؤون الناس العامة، ويكون تناولها بكل المقاييس الأخلاقية طامة.