مع دخول شهر أيار مايو تبدأ الحرارة في منطقة الخليج العربي بملامسة الدرجة الأربعين المئوية نظريا، استعدادا لتخطيها خلال الأسابيع القادمة، ليبدأ فعليا فصل الشتاء القارس على امتداد المساحة الخليجية المسكونة، ولتبدأ قلة قليلة من الكائنات البشرية التي ما تزال لحومها تستشعر البرد كما كان يفعل "الإنسان القديم" قبل اختراع التكييف والتبريد بإنزال ألبستها الشتوية، فالمكيَّفات والمكيَّفون بالمكيِّفات لا يرحمون أمهاتهم وآباءهم والناس جميعا، عندما تملك أيمانهم لوحات التحكم ببرودة المستوعبات الآدمية من الأماكن العامة والخاصة، فيحوّلونها إلى مختبرات تبريد لا يقل مفعولها عن ثلاجات الموتى بدرجة حفظ عالية الجودة.
لا أبالغ إذا أفصحتُ عن ثلاث ليال عجاف من الرشح "الأصلي" أعقبَت محاولتي حضور فيلم في إحدى صالات السينما بالخليج، خرجتُ بعد نصف ساعة على إطفاء أنوارها إلى أقرب صيدلية في الطريق إلى البيت الدافئ. ولا أضخّم الحكاية إذا قلتُ إنني عندما أدخل المطاعم المثلّجة، وكلها مثلّجة، لا أشتهي إلا شوربة العدس الحارة ومرق العظم والبطاطا الحلوة والزنجبيل، وما يجاريها من الأطباق التي تؤكل عادة قرب المدفأة.
قريبا تبدأ عطلة الصيف المزعوم وتخرج معظم العائلات الخليجية إلى إجازات في دول الطقس المعتدل، ولا يتغير شيء في الخليج. فالوافدون إليه أكثر تمسكا بـ "أسكمة" الجو و"سَيبرة" معدلات الحرارة. وسائقو التاكسي من شبه القارة الهندية، تحسبهم تربّوا وسط ضباب لندن من فرط إدمانهم الدرجة الرابعة والأخيرة في مفتاح برودة مكيف السيارة.
في المساجد يتضاعف كرم الوفادة فتجد من التكييف والتبريد ما يمنحك فرصة ثواب تكرار الوضوء، إذا كنتَ من بقايا الأقلية الاستشعارية بالزمهرير؛ فالغالبية هنا لا يحصل لها الخشوع إلا ابتداء من الدرجة 16 مئوية وما دون، فيما تكون أنت في صراع بين استمرارك بالصلاة وقطعها اتقاء المرض، خصوصا عندما يفاجئك مصلّ من أهل المسجد خلفك بتشغيل مروحة هواء إضافية في ظهرك، كبادرة حسن نية ومجاملة لتعويدك على زيارة المسجد.
في العمل أنت في محنة حقيقية، خصوصا إذا كنت محاطاًبأجهزة إلكترونية وكهربائية تتطلب سلامتها درجات حرارة متدنية بغض النظر عن سلامتك. وليس أكثر استفزازا وأنت تتخشّب من البرد في القاعة من زميلة تقطّب حاجبيها، وتتمتم بامتعاض استثنائي "ما هذا اللهيب اليوم؟"، أو زميل يهاتف الصيانة مطالبا بتبريد أعلى فنحن "نكاد أن نختنق هنا"، يقول. بغض النظر عمن تمثل "نحن" المدَّعاة.
لا شك أن العيش في المدن الباردة أكثر دفئا منه في المدن الحارة؛ ففي الأولى يتقبل الناس فكرة التدفئة لتعديل الجو، أما في الثانية فتميل الأغلبية إلى التطرف وكسر الحر بموجات صقيع "تغيّر في خلق الله". فحرارة الطقس عندهم هي ما يرتسم على تطبيقات الهواتف بغض النظر عن حقيقة أن أحدا لا يعايش هذه الحرارة أكثر من دقيقتين خلال اليوم، وذلك في قطع المسافات الضيقة بين السيارة ومداخل المباني.
أتساءل دائما كيف عاش العرب قبل اكتشاف التبريد فنبغوا شعرا وعلما، وقاتلوا بصلابة وانتصروا حتى في رمضان على الرغم من الحر والعطش والجوع! وأميل في تطرّفي ببغضي للبرد إلى طرح سؤال معاكس: هل نبغت أجيال المكيفات، وهل هي قادرة على تحمل الظروف المناخية أقله، إذا استدعى الأمر ذلك لصنع الانتصارات؟