لم يُعرف عن وزير خارجية لبنان جبران باسيل زلات اللسان في السياسة ولا التصريحات العاطفية، بل إنه لا يجيد الخطاب الانتخابي والشعبي، ويبدو متصنعا عندما يُضطر إليه، وربما يكون هذا أحد أسباب سقوطه مرتين في الانتخابات النيابية. إذ انه يعمل في السياسة كما في مهنته كمهندس انطلاقا من قواعد حسابية ورياضية.
يذهب باسيل إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، فيزايد على الحاضرين في مسألة القدس، ويعرّج إلى مسألة انصهار المسيحيين العرب في بيئتهم المشرقية ضمن هوية جامعة تشكل القدس عنواناً بارزا لها.
ثم يعود إلى لبنان فيقابل قناة الميادين ضمن لقاء خاص مسجل بإيقاع هادئ، ويطلق مواقف خلّفت عاصفة من الردود والردود المضادة.. وأهم ما أثار الجدل في مقابلته قوله إنه ليس بين لبنان وإسرائيل خلاف إيديولوجي، ولبنان يعترف لإسرائيل بحق الوجود والعيش بأمان.
استنفر للهجوم أو للنيل من باسيل فريق من الكتّاب من جبهتي حلفائه وخصومه.
فالصقور من مؤيدي نهج حزب الله طالبوا باستقالته ورأوا في تصريحاته خروجا على وضعية البلد وفق القانون الدولي التي تعتبر أن لبنان في حرب مع إسرائيل ويخضع لاتفاقية هدنة.
نظرية الحياد اللبناني هذه هي أقل ما يمكن أن يقبل به الأميركيون الذين يعيدون تشكيل المنطقة ويطوّبون إسرائيل قطباً فيها.
وذكّرت صحيفة الديار المؤيدة لحزب الله والنظام السوري، أن لبنان على خلاف إيديولوجي كبير مع دولة عنصرية ترتكز على الصهيونية وتغتصب أرض فلسطين، وتهجر جزءا من الفلسطينيين إلى أرضه.
فيما استغل خصوم باسيل ولا سيما من الأحزاب المسيحية المنافسة سقطته ليظهروه على أنه متخبط في مواقفه وضائع بين التزاماته مع حزب الله، الوكيل المحلي لخط الممانعة، وثقافة سياسية أخرى تنادي بتحييد لبنان عن الصراع في منطقة الشرق الأوسط.
وأثار هؤلاء الخصوم جملة تساؤلات عن مستوى الثقة القائمة بين ركنَي المعادلة الشيعية المسيحية في قوى 8 آذار، حزب الله والتيار الوطني الحر.
لماذا لا يكون جبران باسيل المتواصل باستمرار مع الدوائر الغربية بصفته وزيراً للخارجية، يعني ما يقول ليس بالنص الحرفي، بل بروحية الموقف التي تنادي بهدنة حقيقية مع إسرائيل مرعية دولياً وتضمن الأمن للجانبين
أمّا مصطلح "الإيديولوجية" الذي لم يفككه البيان التوضيحي كما ينبغي، فأغلب الظن أن باسيل كان يقصد به البعد الديني إذ أراد أن يؤكد عدم وجود مشكلة دينية مع اليهود كطائفة.
بعيداً عن المهارة اللبنانية في اصطياد سقطات السياسيين والتشفي بها لأغراض تبتعد معظم الأحيان عن موضوع السقطة، هل إن موقف باسيل في المقابلة خاص به أم يمثل حالة سياسية عريضة في لبنان؟.. على الأقل يشاطر باسيلَ موقفَه في العمق منذ سبعينيات القرن الماضي أحزاب الجبهة اللبنانية القديمة، أي الكتائب والقوات اللبنانية والوطنيين الأحرار، وحديثا كان حزب الله وبيئته يتهمون كل قوى 14 آذار بما فيها تيار المستقبل (قبل عاصفة احتجاز الرئيس سعد الحريري في الرياض) بتبني نظرية حياد لبنان في الصراع العربي مع إسرائيل رغم أن جزءا من أرضه ما يزال محتلا.
كثيرون ممن يطالبون حزب الله بعودته من سوريا لا ينظرون بعيون الغرب الجديدة التي تفضل بقاء القوة العسكرية لحزب الله في سوريا وفي أبعد نقطة ممكنة عن حدود فلسطين المحتلة
ولا يبتعد الروس كثيرا عن مطلب الأمن "الحدودي الإسرائيلي" الذي وعد به فلاديمير بوتين بنيامين نتنياهو على الجبهة السورية قبل بناء قواعد عسكرية روسية على الساحل السوري.
فلماذا لا يكون جبران باسيل المتواصل باستمرار مع الدوائر الغربية بصفته وزيرا للخارجية، يعني ما يقول ليس بالنص الحرفي، بل بروحية الموقف التي تنادي بهدنة حقيقية مع إسرائيل مرعية دوليا وتضمن الأمن للجانبين، متأثرا ربما بما يطلع عليه من رؤى الدول العظمى لدور لبنان في المرحلة المقبلة. وهو دور "موعود" يعيد قرار "السلم والسلم" للدولة اللبنانية، بينما قرار السلم والحرب اليوم بيد حزب الله.
كثيرون ممن يطالبون حزب الله بعودته من سوريا لا ينظرون بعيون الغرب الجديدة التي تفضل بقاء القوة العسكرية لحزب الله في سوريا وفي أبعد نقطة ممكنة عن حدود فلسطين المحتلة.
وتحديدا في المنطقة الممتدة من الهرمل إلى القصير وبعض ريف دمشق. على أن يعاد بناء دولة "معتدلة" في لبنان بنظام رئاسي تكون فيه لرئيس الجمهورية المسيحي الكلمة الفصل.. فهل كان جبران باسيل في مقابلة "الميادين" يفكر بالمستقبل بصوت عال؟...