لم يكن ما صدر من هيئة كبار العلماء في مصر، بشأن الطلاق الشفهي، مجرد فتوى دينية، ففي الحقيقة، أن الأمر تجاوز هذا ليكون رسالة لعبد الفتاح السيسي، بألا يهرف بما لا يعرف، وأن يتوقف عن الإفتاء في أمور الدين، فليس مؤهلا للفتوى، ولا يملك مقومات الفقيه!
تكمن أزمة عبد الفتاح السيسي في أنه جاهل ويجهل أنه جاهل، ولأنه سبق له الحديث في الشؤون الدينية، فوجد تصفيقا من العامة والدهماء، فظن أنه من أهل الحقيقة، وأنه أعلم أهل زمانه، ومن ثم فقد أعلن أنه من سيحدد للمصريين معالم دينهم، ثم أنه بحديثه عن تجديد الخطاب الديني فقد وجد لصوته صدا في الغرب، فلا تكاد تخلو خطبة له من توجيه ديني، ولو مثل هذا إقحاما على المناسبة التي يتحدث فيها، غير مدرك بأنه لكل مقام مقال، ولم يكن عجبا – وهذا دأبه- أن يتطرق في الاحتفال بعيد الشرطة، لزيادة معدلات الطلاق في مصر، ومن ثم فقد اعتقد أن تقنين الطلاق بعدم وقوعه إلا أمام "المأذون"، يمكن أن يكون سببا في تراجع معدلاته، فاته أن السبب الأكبر وراء شيوع الطلاق راجع إلى الأزمة الاقتصادية، التي يعد بفشله وعجزه سببا مباشرا لها!
في مقال سابق، ذكرت أن الحالة السيساوية ترجع في الواقع إلى الثقافة السمعية، فمن الواضح أن السيسي لم يقرأ كتابا، ولم يطالع بحثا، وهناك من يطرح أمامه رؤوس موضوعات، لا تجد ذهنا منظما لاستيعابها، فعندما يعيد إنتاجها، فإن العقل المرتبك يحولها إلى تهويمات، طائرة في الهواء، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ولعله استمع إلى الخلاف الفقهي القديم، حول الطلاق، وهل يستدعي شهودا لصحة وقوعه، أم لا؟! وربما استمع إلى أخذ بعض البلدان بمبدأ أن الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي، فنتيجة التشويش الذهني الذي يعاني منه، فقد ألقى بفتوى ألا يقع الطلاق إلا أمام "المأذون"، ليذكرنا بأن "المأذون" يطلق عليه في الريف المصري "القاضي"، فاختلط عليه لذلك الأمر، كما يطلق على القاضي "الحاكم" في الثقافة المصرية القديمة!
وإذا كان صاحب كتاب "الطلاق في الإسلام"، "أحمد شاكر" قال بوجوب الإشهاد كشرط لوقوع الطلاق، فإن هذا يأتي على خلاف مع ما ذكره صاحب كتاب " تلبيس إبليس"، " أبو الفرج الجوزي" من أن وجوب الإشهاد هو من تلبيس الشيطان على الرافضة!
وقد أوضح الشيخ "عطية صقر"رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقاً، الأمر عندما ذكر أن جمهور العلماء ذهب إلى أن الطلاق يقع بدون شهود، وأن الشيعة هم الذين اشترطوا الإشهاد، وحملها جمهور العلماء على الندب والاستحباب، ولولي الأمر أن يأخذ بها!
يكمن الخلاف في تفسير الآية الكريمة: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم".
ومن قال بشرط الإشهاد عند التطليق، يأخذ بقوله تعالى "واشهدوا ذوي عدل.."، لكن ابن كثير قال بأن الشهود عائدون على الرجعة وليس على الطلاق!
جدل واسع كما هو واضح، لكن يبدو أن ما يأخذ به الشيعة هو ما نقل للسيسي، فظن أنه عندما ينقله للناس وفق قدراته الاستيعابية المحدودة، فسوف يكون كمن جاء بفتح مبين، ويظن المحبون له أنه تنزلت عليه الرسالة، وقد وجدنا وعاظا اشتهروا بالخفة يبادرون بتأييد ما ذهب إليه "الرئيس" مثل الواعظ "خالد الجندي"، قبل أن تقطع هيئة كبار العلماء قول كل خطيب!
فهل كانت المشكلة في أن أحد هؤلاء الوعاظ كان سببا في توريط السيسي، وقد يكون عرض عليه هذا الخلاف الفقهي، فلم يستوعبه، باعتباره نتاج للثقافة السمعية، فما وصله هو ما قاله، وما استوعبه هو ما أفتى به، وما نساه عن الشهود عوضه بـ "المأذون"؟!
إن السيسي بحالته هذه يذكرنا بحالة شبيهة هي حالة اللواء زكي بدر وزير داخلية مصر في الفترة من (1986- 1990)، وقد وقف في البرلمان يبرر للتعذيب في السجون والذي يفضي في بعض الحالات إلى الموت ويقول: "قال صلى الله عليه وسلم: يجوز قتل ثلث الأمة ليعيش الثلثان"، صدق رسول الله!
كنت أعلم أن من أمده بهذه الرأي هو عضو البرلمان الشيخ يوسف البدري، والذي انتقل من المعارضة ويتقرب لأهل الحكم بالنوافل، لكن البدري لم يقل له أن هذا حديث، فقد قال إنه قول مأثور عن الإمام مالك، لكن المقولة صادفت عقلا متصحرا، فنسي زكي بدر أنها للإمام مالك، وظن أنها حديث نبوي، وهو ما استخدمته المعارضة مادة للتشنيع عليه، ووصمه بالجهل، ونشرت جريدة "الوفد" وكانت من أوسع الصحف المصرية انتشارا، ردا على الوزير من الدكتور "موسي شاهين لاشين" رئيس قسم الحديث بجامعة الأزهر، يقول فيه أن ما ذكره وزير الداخلية ليس حديثا منسوباً للرسول، وتم استطلاع رأي بعض العلماء فيمن يكذب على الرسول عامدا متعمدا، وفي ظني أن الوزير لم يكذب عامدا فقد وقع ضحية جهله، كما كان هذا الموقف كاشفا عن أن من يحصل على ثقافته بالسمع، سيكون أضحوكة الناس. وقد تركه يوسف البدري يواجه قدره المحتوم!
لقد أراد عبد الفتاح السيسي أن يستأنس برأي شيخ الأزهر وعندما رآه ليس طيعا حول الأمر إلى مداعبة، كشفت أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام!
وقد حدث أن اشتكى الشيخ الطيب للمشير محمد حسين طنطاوي، "الأب الروحي للسيسي"، لأنه يتجاوزه، ويقرر أموراً في شؤون الدين من وراء ظهره وبالاستعانة بوزير الأوقاف وآخرين، وكان الدليل هو فرض "الخطبة الموحدة"، وبعد أن التقيى الشيخ بالسيسي بعد الشكوى تم العدول عنها.
الشيخ الطيب، هو ابن الدولة العميقة في مصر، وهناك ثلاثة مواقف حددوا لي طبيعته.
الموقف الأول: عندما كان رئيساً لجامعة الأزهر وسمح لجهاز الأمن أن ينكل بطلاب الإخوان بالجامعة الذين رفضوا تزوير إرادة الطلاب في انتخابات اتحاد الطلبة، وقد تم تلفيق قضية قلب نظام الحكم لهم، وظهر "الطيب" شامتاً فيهم لأنهم لم يستمعوا لتحذيراته، وهى الجريمة التي مهدت لها صحيفة "المصري اليوم" بنشر صور للطلاب وهم يلعبون "الكاراتيه" وتم اعتماد ذلك دليلاً على صحة الاتهام بالعمل على قلب نظام الحكم بالقوة. وهو ما نددت به في حينه!
الموقف الثاني: عندما تم تعيينه شيخاً للأزهر، ومع تبوء هذا المنصب الرفيع، إلا أنه رفض الاستقالة من عضوية لجنة السياسيات بالحزب الوطني برئاسة جمال مبارك، وقال إن صاحب الأمر له بتقديم استقالته هو الرئيس مبارك وهو ينتظر إلى حين عودته من الخارج ليأمر بالاستقالة أو الاستمرار عضواً في هذه اللجنة الحزبية، وقد نددت بالاختيار وبموقف المختار في حينه، وأكدت أنه استمرار لمرحلة سابقه محمد سيد طنطاوي، وليس امتداداً لشيوخ الأزهر الذين كانوا يعرفون قيمة الموقع وعظمة المكانة!
ولقد كان الشيخ جاد الحق على جاد الحق، واحدا من الذين يحسبون على النظام الحاكم، الذي اختاره وزيرا للأوقاف، ومفتيا للديار، ثم شيخا للأزهر، ولكن عندما أصبح في الموقع الأخير، تمثل عظم المكانة، واستلهم تاريخ المؤسسة العريق فبدا كما لم يكن يوما محسوبا على السلطة، وكما لو كان من اختاره لموقعه ليس مبارك، ولكن هيئة كبار العلماء!
الموقف الثالث: هو ما قرأته للدكتور يوسف القرضاوي، من أن الشيخ الطيب أراد أن يصطحبه للجلوس مع رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، وكانت المفاجأة أن الشيخ هو من انتقل لمكتب رئيس الجهاز، وفي الأعراف والتقاليد، فإن الوحيد الذي ينتقل له شيخ الأزهر هو رئيس الدولة.
وقد كنت من الذين نادوا بعزل الدكتور الطيب من منصبه بعد الثورة، لأنه ليس تعبيرا عن الأزهر ومكانته، ولكنه يعبر عن مبارك ونجله، لكن كنت كما هي العادة أقوم بالأذان في مالطة، فالنخبة التي تربت في "حظيرة فاروق حسني وزير الثقافة"، حتى التخمة، قررت أن تفرض وجودها من خلال الأزهر وبالنفخ في شيخه، فكانت وثيقة الأزهر التي كتبها أحدهم، وذهب الثوار إلى المشيخة ليحصلوا على الشرعية من هناك، بمن فيهم من وصفوا أنفسهم بأنهم شباب الثورة، ولا بأس فلم يكن لديهم دراية بصحيفة الحالة السياسية لشيخ الأزهر، فهم أبناء اللحظة!
وقد عملت اللجنة التي أعدت الدستور في عهد الرئيس محمد مرسي المستحيل حتى ترضي الشيخ وتحصن منصبه، وعندما سألت عن سر الإبقاء على "صابر عرب" في موقع وزير الثقافة، وهو من الفلول، في عهد الرئيس مرسي قالوا إن بقاءه تم بناء على رغبة شيخ الأزهر!
وفي الانقلاب العسكري، كان الشيخ الطيب على يمين عبد الفتاح السيسي وهو يلقي بيان الانقلاب، فقد انحاز الشيخ لدولته!
ولعل سؤالاً يطرح نفسه: ما السر وراء الفتور في العلاقة بين السيسي والشيخ الطيب؟ حيث تعد الدعابة كاشفة لها وليست ساترا يمنعها؟!
إن السيسي لا يقبل بشخص يبدو وجوده سابقاً على توليه لمهام منصبه، وقد عزل وزير الداخلية الذي شاركه في الانقلاب، كما عزل الوزراء الذين كانوا يتعاملون على أنهم شركاء في الثورة المضادة على الرئيس المنتخب، وأسقط حكومة حازم الببلاوي، ورغم أن وزير الدفاع يبالغ في كسب الرضا، إلا أن هذا لم يمنع من أن يفكر السيسي جديا في تعديل الدستور لإلغاء النص الذي يحصن منصب وزير الدفاع لثماني سنوات، وهو النص الذي وضعه السيسي لنفسه وقبل أن يقرر الترشح لمنصب رئيس الجمهورية!
والسيسي ليس له يد في تعيين الشيخ الطيب الذي عينه مبارك، فضلا عن أنه يريد شخصا طيعا، مثل الشيخ على جمعة، وفي وزن الريشة مثل وزير الأوقاف، الذي هو على أتم استعداد ليرتفع بالسيسي لمرتبة سيدنا الخضر عليه السلام.
هذا عن السيسي، أما الشيخ الطيب، فهو رجل صعيدي، وهو "من بيت"، وسيد في قومه، وهو بحكم انتمائه الصوفي ليس ثائراً، وليس مصلحاً، وللحاكم عنده نفس منزلته عند السلفية المدخلية، بدون تأسيس، فالصوفية في مصر بدون أساس فكري، وهو للأخيرة مع السلطة، لكنه في الأولى يخضع بالقول وبالفعل لمن ينزله منزلته، وإن بدا تابعا، وهو نمط من الناس لا يجيد العسكر التعامل معهم، وهم الذين يديرون أي موقع يخضع لنفوذهم وكأنه وحدة عسكرية، وما الأوطان إلى ثكنات، ليس أمام أصحاب الرتب الأدنى، إلا تنفيذ الأوامر الصادرة لهم.
الشيخ الطيب، يستشعر أن السيسي لا يعتبره من شيعته، والسيسي لا يجيد التعامل مع أمثاله، والشيخ يتخذ موقفاً من دماء رابعة سلبياً، فيقرر الاعتكاف لأنه ليس في ثقافته أن يصطدم، لكن التفريط له حدود، ولا يمكنه أن يفرط في دينه لدرجة أن يساير عبد الفتاح السيسي، في اجتهاداته، التي قد تنتهي به إلى أن يتحمل وزر من يعيشون في الحرام، عند الأخذ بفتوى أنتجها عقل جاهل، هى الخاصة بأن الطلاق لا يقع إلا أمام "المأذون"!
لقد كان موقف هيئة كبار العلماء، برئاسة شيخ الأزهر، شديد الشجاعة، وعندما يتحرك الزمن بعد توقف للأمام، سيحسب موقفاً مضافاً لمواقف عظيمة لهذه المؤسسة الدينية العريقة، التي تضعف لكنها في لحظة الضعف تثبت أنها لم تمت!
فهل يستوعب السيسي الدرس ويتوقف عن العبث، فهو ليس فقيهاً، وليس عالماً، وليس مجتهداً، ولكنه التعبير الواضح على معنى:" فقر الفكر، وفكر الفقر"!