سألت الألمانية الشابة كاتيا: هل لديكم
بابا نويل في الإسلام؟
قال صديقي نوري: لا..
قلت: بلى عندنا بابا نويل يا سبعي..
فرفع نوري رأسه مندهشاً.
بابا نويل أو
سانتا كلوز، هو بطل رأس السنة الغربية. أسطورة بُنيت لها قرية مثالية سنة 1927 اسمها لابلاند، على الحدود بين فنلندا وروسيا، وملايين الناس بلا بيوت، تردُ عشرات آلاف الرسائل إليه، وفي مكتبه موظفون يفضّون الرسائل من العشاق. أمس في إيطاليا اعتقلت السلطات إيطاليين شككا بوجوده، التشكيك بوجود بابا نويل إلحاد يعاقب القانون الإيطالي!
هو حكاية تحولت إلى واقع. كتب الحكاية شخص يدعى ماركوس، يقال: إن أصل القصة قديس اسمه سانت نيكولاس، سمع بفقير يريد تزويج ابنته، فأهداه مالاً، ثم أهدى الثانية مالاً لتتزوج أيضاً، وعند زواج الثالثة، كمن له الأب، وضبط "اللص"، الذي يقوم بعكس فعل اللصوص، لكن على طريقتهم، بالفضل المشهود. هناك مطالعة إسلامية لبابا نويل تقول: إنه قاتل الإله، ومدمر التوحيد، قبل أن يعلن نيتشه موته بالمطلق. بابا نويل هو الأسقف نيكولاس الذي ضرب الموحد أريوس، في مؤتمر نيقيه، واستبدل بشخصيته الشرّيرةِ الوثنية شخصية خير، مقتبسةً من التراث والخيال الإسكندنافي.
بالأمس القريب كان لبابا الفاتيكان فتوى، زعم فيها أن الملحدين سيدخلون الجنة، لأنّ المسيح فداهم بدمه. ملخص الحكاية هكذا: يقتلُ قاتلٌ ابن الإله الوحيد، فيذهب الجميع إلى الجنة: القتلة واللصوص، والملحدون، ومدنسو بيت الرب وبيت الشعب، ما أغرب هذه الجريمة الرائعة! خلاص لنغلق الجحيم، ونوفر الوقود، ونغلق غوانتانامو كبادرة حسن نية تجاه دافع الضرائب.. الهدر حرام.
وكان البابا لاون العاشر قد عرض صكوك الغفران في السوق، لبيع الخطايا وشرائها، وذلك لبناء كنيسة، وهي معادلة تعني: بيع الآخرة التي لا يملكها بالدنيا، فنشأت اللوثرية الإصلاحية القائلة بفساد الكنيسة، وما شراء فرانسيس الخطايا وبيع الجنة مجاناً وكأنها ملكه سوى علامة مسجلة لموت الإله في الكنيسة الحديثة.
بات بابا نويل شخصية عالمية معولمة، "لابس الأحمر والأبيض، والعيون تضرب سلام" كما يقول ناظم الغزالي. في الخمسين، سمين، أشقر مثل المسيح في العين الغربية، أبيض اللحية، واللحية شرقية، وهي إمّا مستعارة من الكنيسة الشرقية، وإمّا من التراث الإغريقي.
هو صورة أخرى عن الرب، ينزل من المدخنة، لكنه لا يتسخ بالهباب، شتائي الحضور، لا يصلح للصحراء العربية، ومع ذلك كانت الإمارات صاحبة أكبر احتفال بشجرة الميلاد منذ سنة أو سنتين، تقول مرويات الغرب: إنّ الشجرة تقليد وثني. كان الناس قديماً يقدمون الأطفال ضحايا للآلهة، فأنقذ مبشر مسيحي الطفل المعد للذبح، فقطع الشجرة وأخذها إلى بيته، ومن هنا جاء احتفال الناس بها، وتزيينها بالألوان والأنوار، وهناك اجتهادات أخرى تقول: إنّ أصلها ديني، وهي الشجرة المباركة التي رآها موسى عليه السلام. في التوراة اسمها شجرة العليقة، وترمز لمريم العذراء التي حملت في بطنها الأقنوم الثاني.. ويمكن أن تذكّر بشجرة ذات أنواط، التي عبدتها بعض قبائل العرب. يرد ذكر الشجرة المباركة في القرآن الكريم أيضا، لكن في سياق مختلف: " لَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ".
يقال أيضاً: إن بابا نويل ذُكر لأول مرة سنة 1923 في قصيدة تحمل عنوان الليلة قبل الكريسماس، للشاعر الأميركي كليمينت كلارك مور، أضاف إليها الرسام الأميركي توماس أسطورة العربة المصنوعة من الماس، التي تحلق في السماء من بلد إلى آخر، تجرها الأيائل الجميلة ذات الأجنحة الطويلة حاملة وراءها كيساً أحمر كبيراً مليئاً بأحلام أطفال العالم . لكن الحق أنّ السيد نويل في الأفلام والحكايات غير ما هو عليه في الواقع: والواقع أنه لص، أو وكيل إعلاني يلصُّ التجار من خلف ظهره كما تقول الويكيبيديا مشكورةً. فهو أبو الأغنياء لا الفقراء، أول من روّج لهذا القديس "الملائكي" هو: شركة كوكا الكولا الأمريكية الإمبريالية العملاقة، عندما جعلته بطلاً لملصق لا مشروب، وملاكاً حارساً للكوكا كولا.
يمكن أن نطلق هذا العنوان على الحكاية" بابا نويل والأربعين حرامي". شجرة عيد الميلاد الغربية أضيئت بدماء ملايين المستعبدين من أفريقيا وأمريكا (الهنود الحمر) والهنود العرب، لبناء أوربا المعاصرة. ويمكن أن نتذكر القديس فالنتاين أيضاً. جرى فصل الدين عن الدولة في الغرب لكن القديسين يعملون في التجارة هذه الأيام.
تذكرت أيضاً أنني لعبت مع ابني لعبة بابا نويل، عندما أقمتُ في مدينة القصير المنكوبة في إحدى السنوات العجاف، فتواطأت مع رجل يعمل شماساً، ويتنكر في زي بابا نويل في رأس السنة، وله عربة وحصان، دسستُ له هدية اشتريتها لابني، و أعطيته عنوان البيت، وأجرة التوصيل وتعادل ثمن الهدية. هدية للولد وهدية لبابا نويل! حتى يظهر الأمر للولد كأنه حقيقة. لكن الصغير خاف كثيراً عندما وصل النويل بأجراسه، ربما خاف من الجيران والمظاهرة التي رافقت بابا نويل. اللون الأحمر في زي بابا نويل من أقسى الألوان، والأبيض اللطيف لا يلطف كثيراً من قوّة الأحمر.
قلت لكاتيا: ليس عند المسلمين مداخن عريضة حجرية مثل مداخنكم، حتى تعبير "رجل الدين" هو تعبير غربي، وهو محدث في الصحافة والميديا العربية، فكل المسلمين رجال دين، وكانوا ملتحين جميعاً قبل الصعود الغربي، و قبل رواج صورة الرجل الغربي الحليق، وسيادة الحضارة الغربية.
كان نوري قد ملَّ وهو ينتظر تفسيري لبابا نويل الذي يقوم بتوزيع الهدايا، ربما توقع أن أدّعي أن البغدادي الذي جاء بهدية الدولة الإسلامية هو بابا نويل المسلمين، فهو ملتح وعلماني، هو أكثر عربي علماني رأيته في حياتي!
العلماني التقي حسب تعريفات المسيري: هو الذي لا يفرّق بين المثير والاستجابة، مثل الحيوان. والبغدادي يريد الدولة الإسلامية فوراً وحالاً ويريد نفسه المحترم خليفةً لغير خالف، إذاً هو علماني مائة بالمائة.
ربما توقع نوري أن أدّعي أن الرئيس العربي هو بابا نويل كل أيام السنة، فهو يهبط علينا بمخابراته كل ليلة، من المدخنة، ومن بالوعة الصرف الصحي، ومن عين الباب السحرية، ويعتقل كل من تسوّل له نفسه أن يحلم، الرئيس العربي جعل الأمة كلها أطفالاً، لكن من غير لحية بيضاء، أو زي أحمر وأيائل، فقلت أخيراً:
كل مسلم هو بابا نويل.
شرحتُ لهما: المسألة بيسر أيتها القطة الجرمانية، أنّ للمسلمين عيدين، هما الفطر والأضحى، وفي الفطر يوجب الإسلام على كل مسلم أداء زكاة الفطر عن نفسه وعائلته، حتى لو كان فقيراً، وهكذا كل مسلم هو بابا نويل، يهدي جاره الفقير هدية، قد تكون مالاً أو طعاماً أو هدية عينية، والمال أفضل. وفي الأضحى، الهدية لحم الأضحية، ويجب أن تكون الأضحية سليمة ملحاء، ومن غير الايائل، الأيل لا يجوز أن يكون ضحية حسب الشرع الإسلامي.
قال نوري: بناموس جدتي لم يخطر لي هذا الأمر يا خال، يعني أنا بابا نويل؟
قلت: أنت بابا نويل وستين نويل.. ربط بعض المجتهدين المعاصرين بين شخصية المسحراتي، وشخصية بابا نويل. بابا نويل يأتي والناس نيام في ليلة رأس السنة، أما المسحراتي، فهو يوقظ النائمين شهراً كاملا، ليوحّدوا الدايم، ويطهروا أنفسهم من الكذب والرياء، وأجسامهم من الشحوم الثلاثة والرباعية، وتدريباً على اليقظة من غزو محتمل.
لكن شهر رمضان في العهود الحالية هو أكسل الشهور الإسلامية، وأكثرها هدراً للمال والطعام، وللصحة والعقل، والشحوم الثلاثية، والناس "مش ح تقدر تغمض عينيها" من قيام الليل، تأثرنا بالغرب باحتفالنا بعيد المولد النبوي في القرون المتأخرة. الولادة عند المسلمين هي الهجرة إلى الخير والهدى، وليست لميلاد نبي أو قديس أو ولي.
اقتبسنا الفانوس من تراثنا لزينة العيد، وهو اقتباس طيب، ويرمز للنور والفجر والهدى، لكن الحال أن المسلمين نائمون. تذكرنا علي بابا والأربعين حرامي مع شركة كوكا كولا، ويمكن أن نتذكر مصباح علاء الدين السحري، لا سحرَ كسحر العلم.
كنتُ أريد أن أشرح وأحلل وأحرم، لكن أدرك شهرزاد ألمانيا الجوع، فسكت الشهريار المسكين عن الحكي والتأويل الممنوع.