عندما كان كاسترو وجمال عبد الناصر، وكوامي نكروما (غانا)، وأحمد سيكوتوري (غينيا)، وجوليوس نايريري (تنزانيا)، وسوكارنو (إندونيسيا)، وجوزيف بروز تيتو (يوغسلافيا، التي سادت ثم بادت)، وجواهر لال نهرو (الهند)، فرسان الساحة الدولية لنحو ثلاثة عقود، بمواقفهم الصلبة في وجه الغطرسة الأمريكية، في عصر لم تكن فيه وسائل إعلام، سوى الراديو والصحف، وعبر هاتين الوسيلتين كان جيلنا يتابع مآلات حركات التحرر الوطني في الجزائر، واليمن الجنوبي، وفيتنام، وموزمبيق وأنغولا وغيرها.
كان الزعماء الستة فرسان حركة عدم الانحياز، وبالضرورة رافضين الهيمنة الأمريكية على بلدانهم، ومحاولاتها للحلول محل القوى الاستعمارية التقليدية التي نفضت أيديها عن معظم مستعمراتها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان عبد الناصر بطلا قوميا في نظر العرب، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، لمساندته كل الشعوب المتطلعة للاستقلال، ولأنه أول زعيم عربي يجعل تحرير فلسطين "لازمة" ثابتة في خطابه السياسي، ولم يكن الرأي العام العربي، وحتى العالمي، يقف طويلا عند حقيقة أن ناصر وكاسترو وتيتو ونكروما وسيكوتوري، كانوا يجلسون على رؤوس أنظمة
ديكتاتورية، فهُم، ومنذ أن حرروا بلادهم من الاستعمار جلسوا على كراسي الحكم، ولم يسمحوا بالتداول السلمي للسلطة.
تلك المجموعة من الزعماء، كانت تملك ما يسمى بالكاريزما، وهي هبة من عند الله، لا يتمتع بها إلا قلة قليلة من الشخصيات العامة.
انظر مثال عبد الناصر، فرغم أنه ظل حتى وفاته في أيلول/ سبتمبر 1971، يردد أن لقضية فلسطين الأولوية، إلا أنه في واقع الأمر لم يفعل شيئا في اتجاه تحرير فلسطين، وحتى الحرب الوحيدة التي خاضها ضد إسرائيل (حزيران/ يونيو 1967)، كانت مفروضة عليه وخسرها، وخسر معها كامل سيناء.
ومع هذا، فما أن أعلن عن تنحيه عن منصبه، حتى خرج الملايين في جميع الدول العربية يطالبونه بالبقاء في منصبه.
وعندك في المقابل، أنور السادات الذي صار رئيسا لمصر بعد وفاة عبد الناصر (على ذمة محمد حسنين هيكل، فإن السادات صار رئيسا بالصدفة، فقد كان عبد الناصر متوجها إلى المغرب للمشاركة في مؤتمر قمة عربي في كانون الأول/ ديسمبر 1969، وعين السادات نائبا له، وبرر ذلك بأنه الوحيد من بين أعضاء مجلس الثورة الذين كانوا يشغلون مناصب تنفيذية أو دستورية وقتها، الذي لم ينل الفرصة ليكون نائبا "مؤقتا" لرئيس الجمهورية).
ويمضي هيكل قائلا إن (ناصر "نسي" أمر السادات، ربما لأنه لم يكن يهش أو ينش، ولأن المنصب كان أصلا "تشريفاتيا"، حتى توفي فآلت مقاليد الأمور إلى السادات، ومن سخرية الأقدار أن حسني مبارك صار رئيسا لمصر بالصدفة، فقد اختاره السادات نائبا له، لأنه لم يكن يهش أو ينش، وبمصرع السادات، كان الدستور
المصري يقضي بأن يتولى الرئاسة نائبه).
والسادات بما له أو عليه، خاض حربا خطط لها جيدا وفرضها على إسرائيل، ونجحت القوات المصرية في عبور قناة السويس بعد أن دكت التحصينات الإسرائيلية المعروفة بخط بارليف على الضفة الشرقية من القناة، وغفرت له الجماهير العربية أنه كاد أن يحول نصر أكتوبر/ تشرين الأول 1973 إلى هزيمة عندما أوقف العمليات الحربية، فأعطى الإسرائيليين فرصة التسلل إلى غرب القنال عبر ما صار معروفا بثغرة الدفرسوار، ثم دخل بعد الحرب في سلسلة مفاوضات مع إسرائيل انتهت باتفاق كامب ديفيد الذي استردت مصر بموجبه سيناء.
ورغم أن السادات أرضى خصوم عبد الناصر بتفكيك نظام عبد الناصر، الذي كان هو جزءا منه، بل كان كبير المطبلين لناصر، وأصدر كتابا ركيكا بعنوان "يا ولدي هذا عمك جمال"، ورغم نصر أكتوبر، فإن السادات لم يحظ بمعشار الشعبية التي حظي بها ناصر، لأنه وبتكوينه النفسي كان محصنا ضد الكاريزمية، وكانت خطبه السياسية مملة.
فقد كان حريصا على سلامة مخارج الحروف، ويضع مسافة بين كل كلمة وأخرى، وكان ميالا إلى الاهتمام بمظهره الخارجي، فيطلع على الجماهير بملابس المارشالية والغليون، وعندما فاز بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، قالت عنه الحيزبون غولدا مائير، التي كانت رئيسة وزراء إسرائيل خلال
حرب أكتوبر، وخسرت منصبها بسبب نتائج تلك الحرب "إنه يستحق الأوسكار في التمثيل".
ثم أنظر إلى ناصر الذي كانت أهم إنجازاته تأميم قناة السويس والبنوك الأجنبية والإصلاح الزراعي ومجانية التعليم وتشييد السد العالي (لا يعدّ منتقدوه إطاحته بالملكية في يوليو تموز 1952 إنجازا، باعتبار أنه أعطى نفسه صلاحيات ملوكية)، وبموازاة تلك الإنجازات عاش المصريون على مدى سنوات حكمه في ضنك من العيش، لخصه عبقري الكاريكاتير المصري صلاح الليثي، في رسم فيه جمعية تعاونية لتوزيع السلع الغذائية، في ذات رمضان تعلوها لافتة تقول: للصائم فرختان – بالخاء.
ومع هذا، كان ناصر قريبا إلى قلوب الملايين، لأنه كان يخاطب الناس بلغة سهلة وعفوية، ويرونه على الشاشات إنسانا بسيطا، ويتكلم في قضايا تهم كل العرب، وجعل مصر فعلا "قلب العروبة النابض"، ولم يعرف التاريخ قديمه وحديثه جنازة مثل جنازة عبد الناصر التي شارك فيها ملايين الملايين.
وكان ذلك زمانا "غير"، وكان تعريف الديكتاتورية أيضا "غير"، فقد غرس ناصر في أذهان جيل كامل من العرب أن "الحكام الرجعيون فقط هم الديكتاتوريون".