نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالا للأستاذين عبد القادر يلدرم ومارك لينتش، يبحثان فيه إن كان لا يزال من الممكن اعتبار
تركيا ديمقراطية، خاصة بعد ليلة 15 تموز/ يوليو، حيث خرج مئات الآلاف من الأتراك إلى الشوارع؛ لإفشال محاولة الانقلاب، ومع ذلك قامت الشرطة التركية بعد تلك الليلة لعدة أشهر باعتقال أعداد من أعضاء البرلمان من حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، الذي يدعم
الأكراد.
ويشير الكاتبان في مقالهما، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أنه "منذ الانقلاب الفاشل فقد الآلاف من الأكاديميين والصحفيين وناشطي المجتمع المدني وظائفهم، وسجن الكثير منهم، وصعدت الحكومة من حربها على حزب العمال الكردستاني، وطرح مجموعة من الأكاديميين الأتراك، حضروا ورشة عمل أقيمت بالتعاون مع معهد بيكر في جامعة رايس في أمريكا، سؤالا مهما، وهو: هل لدينا من الأدلة اليوم ما يكفي للقول بأنه لا يمكن الاستمرار في اعتبار تركيا ديمقراطية؟".
ويستدرك المقال بأن "الجواب على هذا السؤال أعقد من أن يكون مجرد نعم أو لا، فقد تكون التطورات التي حصلت بعد محاولة الانقلاب تعني أن النظام السياسي تطور إلى نظام هجين: السلطوية التنافسية، كما يصفه ستيفين ليفيتسكي ولوكان واي، في النظام السلطوي التنافسي، فإنه (ينظر للمؤسسات
الديمقراطية على أنها الطريق الأساسي للحصول على السلطة السياسية وممارستها، ويخرق شاغلو المناصب تلك القواعد دائما، إلى درجة تجعل النظام يفشل في تحقيق أقل معايير الديمقراطية)، مثل هذا النظام يخلط بين مظاهر الديمقراطية وصفات الاستبداد فيحكم بـ (قبضة مخملية)".
وتلفت الصحيفة إلى أنه "في الوقت الذي تبقى فيه المؤسسات الديمقراطية الإجرائية عاملة، إلا أنها تفرغ من محتواها، وتتم السيطرة على المؤسسات التنفيذية والقضائية والتشريعية والاقتصادية والإعلامية، ويتم توجيهها للعمل لصالح الحزب الحاكم، ومن الأمثلة المعاصرة على السلطوية التنافسية، روسيا تحت حكم رئيسها فلاديمير بوتين، وهنغاريا تحت حكم فيكتور أوربان، وفنزويلا تحت حكم هوغو تشافيز سابقا، وحكم نيكولاس مادورو حاليا، وماليزيا تحت حكم مهاتير محمد، وتركيا تحت حكم رجب ظيب
أردوغان".
ويجد الكاتبان أن "فهم كيف تطورت تركيا إلى نظام هجين بهذا الشكل، يساعد في التوفيق بين الأهمية المستمرة للمؤسسات الانتخابية مع التراجع الحاد في الحريات العامة، حيث بدأ الرئيس أردوغان بالدفع نحو تغييرات دستورية في تركيا؛ لتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي، بحيث يمنح الرئيس سلطات واسعة، ويضعف المساءلة البرلمانية، قبل الانقلاب الفاشل بفترة".
ويذهب المقال إلى أن "تحرك أردوغان نحو الحكم الاستبدادي لا علاقة له بإسلاميته، لكنه يعود إلى البحث الطبيعي عن السلطة الزائلة، فتوجهات أردوغان الاستبدادية على مدى نصف العقد الأخير تكشف عن أنها تشبه تلك الموجودة عند أي زعيم استمر في السلطة لفترة طويلة، بحيث لا يستطيع أن يتخيل الدولة دون أن يكون ممسكا بزمام الأمور فيها".
وتنوه الصحيفة إلى أن "التدهور الديمقراطي في تركيا لم يبدأ مع المحاولة الانقلابية الفاشلة هذا العام، فبعد سنوات من الديمقراطية المزدهرة في تركيا أظهرت البيانات من مركز (فريدوم هاوس) أن تركيا عانت من توجه حاد نحو التدهور منذ عام 2009، حيث عانت المؤشرات المتعلقة بحرية التعبير والتعددية وحكم القانون وحرية المشاركة من انحدار حاد، وكان الانحدار حادا في الوقت الذي وقعت فيه مظاهرات حديقة غازي العامة في صيف 2013، وتدهورت الأوضاع ثانية عندما صعدت الحكومة من مواجهتها للأكراد، بعد ضعف أداء حزب العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/ يونيو 2015".
ويؤكد الكاتبان أن "هذا لا يعني أن الانقلاب الفاشل لم يؤد دورا، بالطريقة ذاتها التي أدى فيها فشل الثورات العربية بدفع الأنظمة التي تم تحديها إلى المزيد من القمع، فإن الانقلاب الفاشل أدى إلى شعور أردوغان بالتهديد الداخلي، لكن هجومه على المؤسسات الحكومية والمدنية، خاصة ضد الإعلام والأكاديميين أكثر من المعقول، والمؤسف أن أكثر المؤسسات التي ربطها بالتهديد هي أيضا مؤسسات في العادة تحمي من الاستبداد، وتجربة المحاولة الانقلابية القريبة تجعل من الصعب التمييز بين ما هو عمل وقائي ضد انقلاب آخر، وما هو اعتداء على أعداء سياسيين".
وبحسب المقال، فإن "إحدى الطرق التي يمكن فيها تحديد ما إذا كانت تركيا لا تزال نظاما ديمقراطيا أم هجينا، هي إمكانية تغيير الحكومة من خلال الانتخابات، وهو ما ولد نقاشا حادا بين الأكاديميين الأتراك المشاركين في الورشة، وليس هناك جواب واضح، لكن حتى لو كان هناك بعض المخالفات، فإن كلا من الحكومة والمعارضة ملتزمتان بالعملية الديمقراطية، والنزول عند رغبة الشعب، وكان تدخل الجيش قد تم تقليصه إلى حد كبير، حتى قبل محاولة الانقلاب، بالإضافة إلى أن حزب العدالة والتنمية فشل في تحقيق أكثرية ديمقراطية قبل 18 شهرا فقط".
وتستدرك الصحيفة قائلة بأنه "بالإضافة إلى أن انتخابات حزيران/ يونيو 2015، أثبتت أن حزب العدالة والتنمية يمكن أن يخسر، فإنها أثبتت أيضا تمكن الحزب من البقاء في السلطة، بالرغم من الهزيمة، واستغل أردوغان فشل خصومه في تشكيل ائتلاف عملي، واستخدم صلاحياته في آب/ أغسطس للدعوة إلى انتخابات مبكرة، بعد فشل المفاوضات لتشكيل ائتلاف، وكسب حزب الحرية والعدالة الانتخابات في تشرين الثاني/ نوفمبر، ومع أن هذه المناورات مزعجة لخصوم أردوغان، إلا أنها كانت في حدود السياسات الديمقراطية البرلمانية العادية، لكن الأمر غير الطبيعي هو قرار أردوغان تصعيد الحرب مع الأكراد في الفترة المعترضة، وهو ما غيّر بالفعل السياق السياسي لتقويض حزب الشعوب الديمقراطي".
ويذكر الكاتبان أن "أردوغان تجاوز كثيرا حدود السياسة الديمقراطية منذ الانقلاب الفاشل، بطريقة قد تغير إلى الأبد القواعد النظامية، وسعى حزب العدالة والتنمية لتوجيه تدفق الدعم العارم للحكومة المنتخبة؛ لتكريس السلطة، وكان هذا واضحا في حملة التطهير غير المسبوقة ضد غير الموالين في البلد، واتهم حزب العدالة والتنمية جماعة
غولن بالوقوف خلف الانقلاب، مطلقا حملة تطهير واسعة النطاق ضد المشتبه بانتمائهم لتيار غولن في الوظائف الحكومية وغيرها، وامتدت حملة التطهير هذه إلى الأكراد والجماعات الليبرالية العلمانية وغيرهم من المناوئين السياسيين".
ويجد المقال أن "هجوم الحكومة التركية على البنية التحتية للحياة السياسية يشكل أكبر تحد لفكرة بقاء الدولة ديمقراطية، وبالذات الفشل في الحفاظ على حرية الصحافة، ويشير حجم التطهير في صفوف المعارضة والمجتمع المدني المستقل إلى نية السعي للهيمنة".
وتبين الصحيفة أن "حرية الصحافة والإنترنت كانت الأكثر معاناة، ما يوصل تركيا في النهاية إلى مصاف أكثر الأنظمة قمعا في العالم، ومنذ إعلان حالة الطوارئ في 20 تموز/ يوليو، فإن عدد نوافذ الإعلام التي قامت الحكومة بإغلاقها وصل إلى أكثر من 170، بما في ذلك صحف ومجلات ومحطات إذاعية وناشرون ومحطات تلفزة، وهناك الآن 145 صحفيا مسجونا في تركيا، ما يجعلها أسوأ سجان للصحفيين على مستوى العالم، وجاء ترتيب تركيا 151 من 180 بلدا، بحسب مؤشر حرية الصحافة الدولي لعام 2016، الصادر عن منظمة مراسلين بلا حدود، بالإضافة إلى أن تركيا تبطئ شبكة الإنترنت، وأحيانا تغلقها لمناطق محددة، وتمنع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، مثل (فيسبوك) و(تويتر) و(يوتيوب) و(واتساب)، وتمنع خدمات الشبكات الافتراضية الخاصة، التي تساعد على الالتفاف على منع استخدام مواقع التواصل، وتراجعت تركيا في مجال حرية الصحافة والإنترنت إلى فئة (ليست حرة)، بحسب تصنيفات (فريدوم هاوس)".
ويرى الكاتبان أن "كبت الإعلام والإنترنت يساعد على خنق الخطاب المعارض، وتخويف الأصوات الناقدة، والمعارضة والنقد عنصران ضروريان للحكم الديمقراطي، فالمجتمع المحروم من المعلومات، الذي يتم التلاعب بما يصل إليه من معلومات، عن طريق الرقابة، لا يملك الوسائل التي تجعله قادرا على محاسبة الحكومة لما تقوم به من أفعال".
ويفيد المقال بأن "ما حفط تركيا من الانحدار إلى الأوتقراطية تاريخيا هو وجود ثقافة ديمقراطية متينة ومجتمع مدني قوي، بالإضافة إلى أن هناك تحالفات دولية تشجع على الممارسة الديمقراطية، إلا أن هذه التحالفات ضعفت في السنوات الأخيرة، حيث تنتقل سياسات تركيا الخارجية بسرعة بعيدا عن مراسي الديمقراطية التاريخية، ولا بد أن أردوغان لاحظ أن إدارة أوباما فعلت القليل في وجه الانقلاب العسكري في مصر، وفي وجه القمع الطائفي الوحشي في البحرين، وكذلك الانحدار إلى الأوتوقراطية في معظم دول حلفائها الإقليميين الآخرين، وإلى الآن لم يبد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب اهتماما كبيرا في ترويج الديمقراطية، وحتى لو فعل، فإن اعتماد أمريكا على تركيا في حربها في كل من سوريا والعراق، بالإضافة إلى الخطاب القومي المعادي لأمريكا، الذي ساد الإعلام التركي، يساعدان في صد أي ضغط أمريكي بخصوص حقوق الإنسان أو الديمقراطية".
وتورد الصحيفة أنه "في الوقت ذاته، اقترب الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى من إيقاف التفاوض بشأن دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، ووصلت علاقات تركيا مع حلف الناتو إلى أدنى مستوياتها، في الوقت الذي يتنامى فيه التنسيق الأمني بين تركيا وروسيا، كما أبدت الحكومة التركية استعدادا للانضمام لمنظمة تعاون شنغهاي".
وتختم "واشنطن بوست" مقالها بالقول إن "حملة التطهير، التي يقوم بها أردوغان ضد خصومه السياسيين، واعتقال السياسيين المعارضين، والهجمة على الحريات السياسية والإعلام والمجتمع المدني، تشكل تهديدا خطيرا لأسس الديمقراطية، وقد أعرب الكثير عن مخاوف من عزمه مراجعة الدستور، وتركيز السلطات في الرئاسة، وبالرغم من هذا كله يبقى النظام الانتخابي بصيص أمل يشير إلى إمكانية وقف هذه الطموحات الأوتوقراطية، من خلال صندوق الاقتراع، وما دامت هذه الفرصة موجودة فإن انزلاق تركيا إلى الاستبداد يبقى جزئيا وقابلا لعكسه، لكن التجربة الإقليمية والتوجهات الدولية تشيران إلى أن هذا الفعل يجب أن يأتي من الداخل".