يقع الصالحون في أخطاء.. فهم بشر، وليس لهم عصمة. وتقع الجماعات في أخطاء، وهي تظن أنها تخدم أفرادها ورسالتها، وأمتها أيضا. هذا أيضا مما يمكن فهمه.. فمن يتصدى للعمل العام، لا بد أن يقع أحيانا في الخطأ، ولذلك شرعت التوبة، ويحرص العقلاء على الاعتذار.. كطريقة للتعامل مع الخطأ عندما يحدث من أحدهم.
لكن أحيانا يحاول البعض من الصالحين أو من غيرهم تمرير فكرة خاطئة لمن حولهم، وهم يدركون أنها ليست الفكرة الأصح. وبدلا من المصارحة والمواجهة بمبررات فكرتهم، أو ما دفعهم لها - وهي فكرة خاطئة لكنهم مضطرون لها في تقديرهم - بدلا من المصارحة.. يحاولون تمرير الفكرة - بشكل من التحايل - على من حولهم.
قد يفعل هذا أب يمر بظروف صعبة على أولاده.. قد يفعله صاحب عمل يريد علاج مشكلة يمر بها، وقد يفعله قيادي في جماعة يمر بضغوط لا يستطيع مواجهتها.. وقد وقد وقد.. خطورة محاولة تمرير الأفكار للناس، دون موافقتهم.. إنها أحيانا.. أو كثيرا ما تستلزم المراوغة والخداع والكلام الملتوي، وهذا لا يليق بالصالحين، ولكنهم يقعون فيه، وهناك من الشواهد الكثير التي تؤيد حدوث هذا مؤخرا.
هناك أسلوب معروف يتم به تمرير الأفكار الخاطئة على الجماهير أو على الأفراد. أحيانا تتبع الجماعات أو الدول مثل هذا الأسلوب لوجود معارضة لفكرة ما، ومطلوب تمرير فكرة تخالفها دون استثارة الناس، أو بالقدر الأدنى من المعارضة. ما هي تفاصيل وخطوات عمل تمرير فكرة خاطئة على من يتوقع منهم رفضها. هذه هي الخطوات:
1- استدعاء النقاش: يبدأ تمرير فكرة خاطئة بالإكثار من طرحها على سبيل الرفض لها، وهذا غالبا يوجد أرضية للتفكير في شيء كان مرفوضاً بالكامل سابقا. تطرح الفكرة في سياقات متعددة مع تكرار الرفض لها من قبل من يريدون تمريرها مستقبلا. الهدف دائما هو إثارة النقاش، وطرح الأمر على ساحات الفكر.
2- استدعاء التاريخ: إذا بدأ النقاش يتحرك، وظهر من يعارض، وهم بالطبع الأغلبية، وظهرت قلة يمكن أن تتقبل الفكرة الخاطئة، يتم هنا تمرير أدلة وبراهين لصالح من يتقبلون الفكرة الخاطئة. قد تكون استشهادات تاريخية مبتسرة، أو غير ملائمة للواقع، أو آيات وأحاديث مقتطعة من سياقاتها، أو أقوال ومواقف سابقة منتزعة من واقعها أيضا. المهم توفير مادة فكرية تنقل الفكرة من منطقة أنها فكرة مرفوضة تماما، إلى أنها فكرة غير مستساغة. غالبا من يريدون تمرير الفكرة مستقبلا.. يظلون على موقف المعارض لها، ولكن المعارضة تصبح أقل حدة من المرحلة السابقة.
3- استدعاء الضرورة: غالبا بعد المرحلتين السابقتين، فإن النقاش قد بدأ يتكون ويستمر حول الفكرة الخاطئة، وهناك ينتقل أصحاب مشروع تمريرها إلى استخدام مصطلح الضرورات، وأن الضرورة تبيح المحظور، وأن الإنسان وقت الضرورة قد يفعل ما لا يفعله في غيرها. يتم هنا تضخيم الضرورة والحاجة لها، مع التأكيد على المعارضة للفكرة حتى هذه اللحظة ممن يريدون تمريرها. ولكن المعارضة هنا تتحول إلى فكرة الاضطرار.
4- استدعاء العواطف: ومع التأكيد على الضرورات، وعلاقتها بالمحظورات، حتى مع تشويه هذا المبرر، وإساءة استخدامه، يبدأ بعد ذلك استدعاء العواطف لصالح مزايا تمرير الفكرة الخاطئة. ويتم حشد كل العواطف وتكثيفها في منطقة مزايا الفكرة الخاطئة، والتهوين من شأن من يتعاطفون مع رفض الفكرة، واتهامهم أنهم لا قلوب لهم، وأنهم لم يمسهم الضر، ومثل هذه الحيل لإسكات المخالفين. هنا من يريدون تمرير الفكرة يبدأون تدريجيا في إظهار ميلهم لها، ولكن بتحفظ شديد، وعبارات موهمة، وتصريحات تثير التساؤل والاهتمام، وهذا بالطبع لقياس رد فعل تقبل الفكرة الخاطئة.
5- استدعاء التضارب: ومع استمرار النقاش، والاستدعاء الخاطئ للتاريخ، واستخدام الضرورة والعواطف للضغط، ينتقل من يريدون تمرير الفكرة الخاطئة إلى إرسال الرسائل المتضاربة. أحدهم يقول إنه مع الفكرة الخطأ، والثاني ينفي مباشرة، والثالث يعود لينبه على الضرورة، والرابع ينفي، والخامس يستدر العواطف، وأحدهم يصرح بالعكس، وهكذا. إنشاء مساحة من التضارب حول الفكرة الخاطئة تسمح بنقلها إلى ساحات النقاش العام، من أجل التحرك نحو تنفيذها. وهنا يقسم أصحاب مشروع تمرير الفكرة الخاطئة أنفسهم غالبا إلى قسمين: الأول يعلن موافقة ضمنية على الفكرة، والثاني يعلن معارضة هزيلة لها. هذا التضارب يساعد في تحويل القناعات لمن يتم تمرير الفكرة عليهم، وكانوا معارضين بشدة لها.
6- استدعاء الواقع: يتم في هذه المرحلة، استخدام منطق جديد، وهو أن هذه الفكرة الخاطئة هي أفضل المتاح، وأنها ستحرك الماء الراكد في التعامل مع المشكلة، وأنه بسبب الضرورة والعواطف وتضارب الآراء، فلا مانع من تجربتها، وأنه لو كانت تجربة خاطئة، يمكن التراجع عنها بسهوله، وهنا يتم التأكيد أن أوراق اللعبة كلها في أيدي أصحاب الفكرة الخاطئة، وأنهم يستطيعون في أي وقت التراجع عنها، وهو غالبا ليس صحيحا، ولكن يتم استغلال حالة التضارب لتمرير هذه الجزئية الأساسية نحو تمرير الفكرة الخاطئة.
7- استدعاء الترهيب: ومع بدء قبول الناس للفكرة الخاطئة.. يتم استخدام عامل الترهيب لقمع الصوت المخالف، وترسيخ أن الفكرة الخاطئة هي الخيار الوحيد المتاح. كما يتم منع تكون أي فكرة أخرى موازية، وقمع أي رأي مخالف، واتهامه بعدم المبالاة، أو أنه رأي مرجوح، أو أنه يحيا في الخيال، ولا يتفهم ظروف اللحظة، أو الاتهامات بالتفرد ومخالفة الجميع، وهكذا يتم استدعاء الترهيب لإسكات الصوت الذي يرفض الخطأ.
8- استدعاء التأييد: يبدأ بعد ذلك التركيز على فكرة أن هذه الفكرة الخاطئة تحظى بقبول كبير من كل الأوساط المحيطة بمن يريدون تمرير الفكرة عليهم. وتبدأ تظهر عبارات التأييد، ويتم تمجيدها والاحتفاء بها بشكل كبير، وفي كل المناسبات، وتتحول هنا الفكرة التي بدأت كفكرة خاطئة إلى فكرة جيدة مقبولة، ويظل الداعون لها يتحدثون على استحياء عن فكرة الضرورة، وفكرة إمكانية التراجع في أي وقت، رغم أنهم هم من يتحركون طوال الوقت لتمرير تلك الفكرة الخاطئة.
9- استدعاء الوهم: لكي يتم تمرير فكرة خاطئة على البشر، لا بد من إشعارهم أنها ناجحة، ولو مؤقتا. لذلك يجتهد أصحاب الأفكار الخاطئة في تحايلهم على الناس لإثبات وجود نجاحات مبهرة للفكرة الخاطئة. وحيث أن الأفكار الخاطئة نادرا ما ينتج عنها نتائج جيدة، يصبح من الضروري تمرير قدر معين من الوهم على الناس، وهنا يتحول أصحاب الفكرة الخاطئة إلى مخادعين. وتبدأ مظاهر الخداع في الظهور والانكشاف، ولكن الفكرة غالبا في هذا الوقت قد تم تمريرها.
10- استدعاء الرضا: مع تمرير الفكرة الخاطئة، وبدء ظهور عيوبها، يبدأ مباشرة - ممن مرروا هذه الفكرة الخاطئة - الحديث عن أهمية الرضا بالمقدور، وأن من يعترض على القدر يخالف المقبول، وأن الطريق لابد يكون فيه تضحيات، وهكذا تتحول الفكرة الخاطئة من علامة خلل في التفكير، إلى دلالة خيرية القائمين عليها، وأنهم يتعرضون للابتلاء.. وأن الصبر والرضا بالفكرة الخاطئة هو طريق النجاة.
هذه الخطوات العشرة ليست بالضرورة تتم في كل محاولة لتمرير فكرة خاطئة، وقد تستخدم وسائل أخرى لم يتم إدراجها حتى لا يطول المقال، ولكن بالمجمل، هذه محاولة لزيادة الوعي لنا جميعا ضد من يحاولون تمرير أفكار خاطئة علينا كأفراد أو جماعات أو تيارات. المصارحة والمصالحة هي الطريق الصحيح وقت الأزمات، وليس الخداع والمراوغة والكلمات الملتوية الخادعة.. اللهم فاشهد!