أثارت تصريحات بعض المسؤولين في لبنان مؤخرا ضجة حول الموقف الرسمي العربي من
التاريخ العثماني وعلاقة ذلك بتركيا المعاصرة، وكذلك بالأحداث الراهنة في المنطقة العربية والشرق الأوسط. هذه الموجة من التصريحات والهجمات تتزامن مع موقف أوروبي غربي يحرص على تركيع
تركيا المعاصرة؛ عبر إثارة قضايا تاريخية مختلف حولها، وتحويلها إلى مشروعات إدانة واتهام ضد تركيا.
لم يكن مبررا ولا مفهوما أن يدلي الرئيس اللبناني ميشال عون كلمة خلال الذكرى المئوية لتأسيس لبنان، تتضمن ادعاءات "بممارسة الإمبراطورية العثمانية إرهاب الدولة في لبنان"، حسب ما ذكرت وكالة الأناضول التركية.
العلاقات اللبنانية التركية كانت تبدو دافئة، ولم يكن هناك ما يعكر صفوها مؤخرا. فورا، قامت وزارة الخارجية التركية بإدانة ادعاءات الرئيس ميشال عون وغيره، معتبرة أن هذه التصريحات "بنيت على أحكام مسبقة لا أساس لها من الصحة أو المصداقية عن الحقبة العثمانية في لبنان".
أضاف البيان التركي أن "قيام الرئيس عون بتحريف التاريخ من خلال الهذيان، وتجاهله كافة الأحداث التي وقعت في عهد الاستعمار الذي يعتبر مصدرا لكافة المصائب التي نراها اليوم، ومحاولته تحميل مسؤولية هذه الأمور للإدارة العثمانية، ما هو إلا تجل مأساوي لحب الخضوع للاستعمار. وإن هذه المقاربة التي تفتقر إلى الوعي لا ولن تلقى ما يقابلها في المفهوم الموضوعي للتاريخ ولا في ضمائر شعوب المنطقة". السؤال اللافت للنظر: لماذا الآن؟ ولماذا اهتمت تركيا بالرد الفوري والعنيف؟
الاهتمام بتركيع تركيا
هناك رغبة غربية ملحة في إبطاء تقدم تركيا ومحاولة توريطها في مواقف أو قضايا تاريخية تقلل من إعجاب الآخرين بها، أو محاولة تقليد نموذجها في التقدم نحو الأمام؛ بشكل يجمع بين الندية مع الآخرين وبين التعاون أيضا معهم لما فيه مصلحة الدولة والمنطقة والأمة.
لقد بدأ الغرب مثلا في الأعوام الأخيرة في إثارة اتهام تركيا العثمانية ثم تركيا الاتحاد والترقي بإبادة الأرمن خلال الأحداث التي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى، والتي تسببت في تهجير ومقتل عدد كبير من الأرمن في عام 1915م، إضافة إلى مقتل أعداد ضخمة من الأبرياء من المسلمين الأكراد وغيرهم من الشعوب التي عانت من ويلات الحرب في تلك الفترة.
إثارة ما يتعلق بمقتل الأرمن دون غيرهم، وبشكل مفاجئ ومتصاعد في الغرب في الأعوام الأخيرة؛ يثير تساؤلات عديدة، وخاصة أن هذه الأحداث قد مر عليها أكثر من تسعة عقود، ولم يتعاطف الغرب خلالها مع السردية القومية الأرمينية التي ترى أن ما حدث كان إبادة عرقية، ولكن مواقف الغرب تغيرت بشكل حاد مؤخرا فقط، ومع نهوض تركيا، وعودة التعاطف مع الإسلام ومع قضايا العالم المسلم فيها.
هناك حاجة لدراسة هذا الموقف عبر بحث ثلاثة محاور رئيسة، وهي: 1) هل حدثت مأساة أم "إبادة عرقية" للأرمن في عام 1915م، 2) لماذا بدأ الغرب مؤخراً فقط في إثارة هذه القضية، وبشكل منفصل عن سياق تلك المرحلة، رغم نفيه لحدوث إبادة أو مذبحة طوال العقود الماضية، 3) ما هو تأثير هذه الأزمة على صعود تركيا، وارتباطها بقضايا العالم المسلم، ونهوضها الاقتصادي والشامل.
ليست القضية هي تقييم الوقائع التاريخية لتلك الفترة أو تبرئة تركيا أو إدانتها، أو موافقة بعض الأرمن في سرديتهم أو تجريمهم. فالخلاف حول ما حدث في بداية القرن الماضي يجب أن يبحثه ويقرر طبيعته المؤرخون، وأن يكون ذلك في سياق بحث متكامل لما حدث في تلك الفترة من كوارث تسببت في مقتل الملايين من مختلف الأعراق والأديان؛ على يد دول متعددة أوربية أو آسيوية أو غربية.
المهم هو فهم طبيعة ربط الماضي بالأحداث الجارية في إطار سياسي، ولماذا تتم إثارة قضية ما في وقت ما دون أن يكون هناك مبرر واضح لذلك، كما حدث من الرئيس اللبناني مؤخرا، وربط ذلك بالصراعات والتنافس الإقليمي حول مكانة الدول ودورها. وأخيرا، نحن بحاجة دوما إلى توصيات عملية حول الموقف المسلم والعربي من مثل هذه القضايا.
لماذا يثير الغرب تهمة إبادة الأرمن الآن؟
كان الموقف الغربي بالمجمل طوال العقود الماضية (في الفترة التي كانت فيها تركيا بعيدة عن تراثها وهويتها، وباحثة عن التحالف مع الغرب والكيان الصهيوني، ورافضة للارتباط بالمجتمع المسلم الدولي) يميل إلى وصف ما حدث للأرمن في نهاية
الدولة العثمانية بأنه كارثة، ويرفض فكرة أن توصف تلك الأحداث بأنها كانت إبادة عرقية أو ما شابه.
تبنت الجمعيات الصهيونية، والكيان الصهيوني، نفس الفكرة الرافضة لفكرة الإبادة، واعتبرت أن محاولة الأرمن للحديث عن جريمة إبادة عرقية ليس إلا مجموعة أوهام أو محاولة للالتصاق والاستفادة من كارثة المحرقة النازية، ومحاولة تقديم أنفسهم كضحايا من نفس النوع، وهو ما ترفضه تلك الجمعيات بشدة، بل وتؤكد أن ما حدث للأرمن لا يمكن أن يكون إبادة عرقية لأنهم كانوا في حرب ضد الدولة في ذلك الوقت وحملوا السلاح ضدها، وكونوا الجيوش، وتعاونوا مع أعداء الدولة العثمانية بشكل علني معروف. ويؤكد ذلك الكاتب البريطاني الأصل والصهيوني المزاج "برنارد لويس"، في عدد من الدراسات والكتب حول تلك الكارثة، وهو الذي لا يُعرف بتعاطفه مع العالم المسلم بأي شكل من الأشكال.
ورغم أن الأمم المتحدة أعلنت أنها لا تعتبر ما حدث في تركيا في بداية القرن "إبادة عرقية"، وهو الموقف الدولي الرسمي من تلك الأحداث حتى الآن، وعلى مدى تسعة عقود كاملة، إلا أن أوروبا والكيان الصهيوني وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأوا في تغيير مواقفهم في الآونة الأخيرة، بناء على حسابات استراتيجية جديدة.
فأوروبا تريد عرقلة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي، ولذلك أصدر الاتحاد الأوروبي بيانا عام 1987م، ينص على أن الأحداث التي جرت للأرمن عام بين عامي 1915م و1917م كانت عملية إبادة جماعية، وفقا لمعايير الأمم المتحدة عام 1948م، وربط انضمام تركيا إلى الاتحاد باعترافها بالمذابح الجماعية للأرمن، ولكن دون تبعات سياسية، أو قانونية أو مادية.
هكذا باتت تركيا تواجه عقبتين في طريق انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي: أولها الاعتراف بدولة قبرص، وثانيهما الاعتراف بمجازر الأرمن. ومع الوقت بدأت فرنسا الرافضة لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي؛ في استخدام نفس ورقة الضغط، ولذا كان برلمانها هو أول برلمان نادى باعتبار ما حدث في تركيا مع الأرمن "إبادة عرقية". فقد أرادت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 2006م تقديم مشروع قرار يطالب بمعاقبة كل من ينكر إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين في 1915م.
أما الكيان الصهيوني فقد كان يرى أهمية المصالح الاستراتيجية مع تركيا طوال العقود الماضية، وحتى تولي حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا، وكان من أجل ذلك يهاجم التيارات القومية الأرمينية بشدة، ويتهمها بمحاولة الالتصاق والارتزاق من "الإبادة" تشبهاً بما حدث لليهود في ألمانيا. وتبنى الكيان الصهيوني لعقود عبر اللوبي الخاص به؛ التصدي للوبي الأرميني في الولايات المتحدة الأمريكية في كل محاولاته لتحويل الكارثة التي ألمت بالأرمن إلى قرار "إبادة" في أروقة الكونجرس الأمريكي.
أما في الأعوام الأخيرة، فقد بدأ الكيان الصهيوني يستشعر الخطر من ميول حزب العدالة والتنمية إلى دعم القضية الفلسطينية، والابتعاد التدريجي لتركيا عن التحالف مع ذلك الكيان، وظهر على الفور من ينادي داخل ذلك الكيان بفتح ملف "الإبادة" ضد تركيا اليوم!
تسبب نهوض تركيا من كبواتها الاقتصادية وعودتها التدريجية إلى التعاطف مع قضايا العالم المسلم، واستعادة هويتها الإسلامية، في قلق الدوائر الأمريكية من هذه النهضة، وهو ما يعني السعي نحو تحجيم التطور التركي، وهو ما استدعى بشكل مباشر البحث في ملفات الماضي عما يمكن أن يحجم تلك النهضة.
ونشأ تلقائيا قدر عال من التوافق غير المعلن بين اللوبي القومي الأرمني؛ الذي بدأ يعمل بقوة خلال الأعوام الماضية لتمرير قرارات معادية لتركيا في هذا الشأن، وبين التوجهات السياسية لعدد من النواب والشيوخ ممن يميلون إلى التيار اليميني المتعصب، والذي بدأ ينادي في الولايات المتحدة بتقليد عدد من البلدان الأوروبية، رغم أن تلك البرلمانات غير مخولة بالقيام باتخاذ قرارات إدانة أو تبرير لدول أخرى بشأن مشكلات أو أزمات تاريخية.
في عام 2007م تبنى الكونغرس الأمريكي قراراً حول الإبادة، ولكن الرئيس السابق جورج دبليو بوش أجّل التوقيع عليه إلى أن غادر البيت الأبيض؛ حرصا على عدم دفع العلاقات الاستراتيجية بين بلاده وتركيا الى مزيد من التوتر والسوء.
وفيما بعد، وخلال حملته الانتخابية عام 2008 تحدث أوباما عن قتل الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، واصفاً عمليات القتل بأنها كانت إبادة جماعية، ولكنه لم يلتزم بهذا الكلام فور توليه السلطة، بل عمد لأن تكون أول زيارة له إلى المنطقة الإسلامية هي إلى تركيا.
في المقابل، وتحت الاستجابة للضغوط الأرمينية، شاركت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة هيلاري كلينتون، في فترة عضويتها في مجلس الشيوخ، في تقديم مشروع قرار حول إبادة الأرمن. لكن المشروع ظل في أدراج الكونغرس.
بعد ذلك أقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي قرارا يؤكد "الإبادة" بغالبية صوت واحد فقط (23 صوتا مقابل 22). وجاء في النص أن "الجمهورية التركية الحديثة قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي عملت خلال السنوات (1915-1923) على تهجير الأرمن من قراهم ومدنهم التي كانوا يسكنون فيها في شمال الأناضول وجنوبه، بتهمة التحالف مع روسيا"، وأن "هذه الممارسات التركية توجت بإبادة جماعية بحق الأرمن".
بعد أيام قليلة، وافق البرلمان السويدي على الأمر ذاته، بغالبية صوت واحد أيضا. وجرى الحديث في الكيان الصهيوني على طرح مسألة الاعتراف بـ"الإبادة" على الكنيست أيضا.
الموقف الأمريكي من مسألة الأرمن
يرى الباحث العراقي سمير عبيد تطورا هاما في الموقف الأمريكي، "فما كان يحدث طيلة السنوات الخمسين الماضية أن الملف الأرميني كان يطوى بسرعة، مباشرة بعد استقرار غبار معركة الانتخابات، لكن هذا العام طرأ تطور جديد: الملف فتح ولم يغلق، بل هو تحَول إلى قرار أقرَته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، ولأول مرة عرض للتصويت أمام المجلس برمته، وهذا بحد ذاته نوع من الابتزاز ضد تركيا لكي تقدم تنازلات.
هذا التطور كان كبيراً وجديداً، لكنه لم يكن مفاجئا، إذ سبقه قبل نحو شهرين من تحريكه؛ بيان من مجموعة الضغط اليهودية الأمريكية "إيباك"، يؤكد أن المذابح الأرمينية كانت "حرب إبادة" بالفعل.. هذه كانت المرة الأولى التي يدير فيها يهود الولايات المتحدة ظهورهم لتركيا التي يعتبرونها أهم حليف استراتيجي لإسرائيل في الشرق الأوسط، وأول دولة إسلامية تعترف بهذه الأخيرة بعد نشوئها".
والتعاون بين اللوبي الصهيوني والأرميني في المرحلة الحالية في الولايات المتحدة لافت للنظر.
خطورة تنسيق الهجوم على تركيا
لقد تفهم اللوبي الأرمني هذا التغير في المزاج الأوروبي والأمريكي الهادف إلى تحجيم انطلاقة تركيا، ونجح إلى حد كبير في المناداة بفكرته في كل من دول الغرب، وبعض دول أمريكا الجنوبية واللاتينية التي تتركز فيها الجاليات الأرمنية من أصول لبنانية وسورية وتركية أيضا.
وقد قامت الدول التالية، وعددها 19 دولة، بتمرير قرارات عبر برلماناتها في الآونة الأخيرة؛ تشير إلى أن ما حدث بين الدولة العثمانية وبين الأرمن في بداية القرن الماضي كان بشكل ما يعتبر "إبادة عرقية"، وهذه الدول هي: الأرجنتين وبلجيكا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وكندا ولبنان وروسيا وسلوفاكيا وأوروجواي واليونان وقبرص اليونانية وبولندا وألمانيا وليتوانيا وشيلي وفنزويلا. وهناك مشروعات قرارات في برلمانات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وأستراليا.
واستعراض تلك الدول يؤكد التوافق غير المعلن بين الغرب وبين اللوبي الأرمني الذي يعمل جاهدا على استمالة أوروبا الغربية بالعموم ضد تركيا، وكذلك يحاول الاستفادة من الضغط على دول أمريكا الجنوبية لوجود جاليات أرمينية مؤثرة فيها؛ لتشكيل نوع من الضغط الدولي باتجاه تبني الموقف الأرميني من القضية.
نحن أمام محاولة مستمرة لتركيع تركيا تشارك فيها العديد من القوى الدولية، وكان من المؤسف أن يشارك فيها رئيس عربي أيضا. هذ لا يعني إهمال فهم ما حدث للأرمن في تركيا من مأساة شاركهم فيها الكثير من العرب والأكراد والأتراك أيضا. المهم ألا يستخدم التاريخ مطية لتحجيم انطلاقة الدول الصاعدة من أجل مصالح منافسيها في الغرب أو الشرق.. وللحديث بقية.