فاز دونالد
ترامب بكرسي الرئاسة الأمريكية، رغم جهله الفاضح بأمور الحكم والسياسة، على هيلاري كلينتون عضو مجلس الشيوخ المخضرمة، والتي كانت يوما ما سيدة أمريكا الأولى، ووزيرة لخارجية بلادها، ويعزى فوز ترامب لكونه غوغائيا شعبويا، دغدغ بتصريحاته النشاز مشاعر اليمين "الأبيض" المسيحي، ووعده بأن يجعل الولايات المتحدة "عظيمة"، ولأن الشحن العاطفي يلغي العقول، فإن مناصري ترامب لم يسألوا أنفسهم: أليس بلادنا الآن -كما كان حالها لنحو ستين سنة- القوة "الأعظم" في مجالات الاقتصاد والعسكرة والتكنولوجيا وأقوى مؤثر على مجريات السياسة الدولية في قارات الله الخمس؟
من أجمل أبيات القصيدة العمرية للشاعر حافظ إبراهيم:
يا رافعا راية الشورى وحارسها / جزاك ربك خيرا عن محبيها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به / رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
والقصيدة تسجيل رائع لشخصية الفاروق عمر رضي الله عنه، الذي شكل مجلسا للشورى لاختيار من يخلفه في الحكم، وجعل ابنه عبد الله عضوا فيه، دون أن يتمتع بحق التصويت، واقترح عليه أحد المسلمين "استخلف ابنك عبد الله". فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بذلك، ويحك لا إرب لنا في أموركم، ما حمدتها لنفسي فأرغبها لواحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فحسب آل عمر أن يُحاسب منهم رجل واحد، ويُسأل عن أمر أمة محمد. لقد أجهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت لا عليَّ ولا لي، فإني إذا لسعيد.
ولا تشقى البلاد براي الجماعة إذا كانت راشدة ناضجة تتوسل في مشاوراتها الحق والعدالة، أما في حال بلد مثل الولايات المتحدة، يتباهى مواطنوه بأن حمل السلاح الناري حق مكفول بقوة الدستور، وترفض نسبة عالية منهم توسيع مظلة التأمين الصحي ليشمل الفقراء، فـ"رأي الجماعة قد تشقى البلاد به"، فقد اختارت الجماعة الغالبة ترامب رئيسا، لا لرشد فيه أو رجاحة عقل، ولكن لأنه -وبلغة وأساليب سوقية- حرك في المستنقع الأمريكي نزعات الاستعلاء العنصري والقومي، ووعد مناصريه بأن يجعل بلادهم "عظيمة" بمعزل حتى عن حلفائها التاريخيين في أوروبا وشرق آسيا.
وياما صنعت الشعبوية الغوغائية زعامات تحكمت في مصائر الشعوب، بوعود تأسر القلوب، على حساب العقول، كما "العاصفة" التي وعدت الشاعر الفلسطيني محمود درويش "بنبيذ وبأقواس قزح"، وعاش آخر سنوات عمره وفي فمه ماء مر الطعم، وهو يرى الزعيم الفلسطيني التاريخي يبشره وأهله، بأنه أتى من أوسلو ومدريد بمفاتيح الدولة الفلسطينية، وحتى بعد أن ثبت أنه أتى في واقع الأمر بأقفال تستعصي على الفتح، تشل حركة الفلسطينيين حتى، من وإلى الكانتونات التي فرح بإقامتها، ظل يحتكر لقب "الزعيم / الرمز" إلى أخر نَفَس، ولأننا قوم ندفن أخطاء كل من يموت، فما زال الزعيم أبو عمار الرمز الأبرز لـ"القضية"، وما علينا أنه ترك لنا خميرة الانقسام التي أدت لقيام دولتي حماسستان ومازنستان.
ولم يصل جوزيف
ستالين إلى السلطة في موسكو قائدا لدولة الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي الحاكم فيها بانقلاب، بل فاز بأغلبية أصوات اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، وسرعان ما تحول إلى ديكتاتور باطش، كان أول ضحاياه القادة المفكرون في الحزب الشيوعي، ثم انقلب على الجنرالات الذين دكوا حصون ألمانيا النازية وجعلوا أوروبا الشرقية بأكملها خاضعة لسلطة موسكو.
ومن الذي عصف بسلطة الحزب الشيوعي السوفييتي وكتب نعي الاشتراكية؟ أليس هو ميخائيل غورباتشوف الذي نال ثقة غالبية قيادات الحزب ليقود الحزب والدولة؟ لم تكن تلك القيادات تدرك أن غورباتشوف سيكتب نعي الاشتراكية، بل صوتت لمنحه أرفع منصف في الدولة السوفيتية، لأنه وبالتأكيد "خمّ" الجماعة طق حنك، أي عطل منابت التفكير في عقولهم، بكلام جعلهم يحسبون أنهم يضعون الثقة فيمن هو أهل لها.
والشاهد في حالات أبي عمار وستالين وغورباتشوف، والزعيم الفنزويلي هوغو شافيز، وأخيرا دونالد ترامب، هو أن خيار الأغلبية ليست دائما هو الأفضل، سواء على مستوى لجنة في مكان العمل اليومي أو مستوى الدولة، ولم يحظ زعيم في التاريخ المعاصر بالسند الشعبي الذي حظي به أدولف هتلر في ألمانيا (1934-1945)، ولكنه لم يجلب سوى الدمار على بلاده وجيرانه، ودخل التاريخ كطاغية مستبد وسفاح.
وأقول مجددا إن ترامب يملك مهارة تغييب العقل الجمعي للجماهير، بوعود لن يستطيع الوفاء بمعظمها، وكما قال الرئيس الأمريكي الأشهر أبراهام لنكون: "تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت"، وعليه فالراجح عندي أن ترامب سيحكم بلاده لولاية واحدة (فهذا حق لا ينازعه عليه أحد)، ولكن أن يفوز بالرئاسة مرتين، كما فعل أوباما وجورج دبليوش بوش وبيل كلينتون، فلن يحدث ما لم يدخل البعير ثقب الإبرة؛ لأن "القطيع" الذي زفه إلى البيت الأبيض سيدرك -عاجلا أو عاجلا- جدا كم أخطأ في حق نفسه وحق الوطن.