يبدو أن النظام السياسي الذي تم اختياره في
تونس بعد الثورة سيكون مستقبلا محكوما بعوامل عدة ستجعل منه نظاما غير مستقر. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن حكومة الوحدة الوطنية التي يجري النقاش الآن حول تشكيلها ستكون سابع حكومة في تونس خلال خمس سنوات ونصف فقط. وهو ما جعل مؤسسات الدولة معرضة للاضطراب والنشاط المتقطع، ما أثر سلبيا على السياسات وعلى ثقة التونسيين في الدولة وفي المستقبل.
عندما تم إلغاء دستور 1957، حصل جدل واسع داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه حول النظام السياسي الأفضل لتونس ما بعد الثورة.
اتفق الجميع على أن يكون هذا النظام ديمقراطيا قائما على التعددية الحزبية، وعلى سيادة الشعب، من خلال تنظيم انتخابات دورية تكون نزيهة وشفافة. لكن حصل تباين شديد بين الأحزاب حول مركز القوة في النظام الجديد، أي هل يكون لرئيس الحكومة أو لرئيس الدولة، وبمعنى آخر هل يكون هذا النظام برلمانيا أم رئاسيا؟
كانت حركة النهضة أهم قوة سياسية دافعت باستماتة عن
النظام البرلماني، وكانت الحجة التي اعتمدت عليها لتبرير موقفها هو ما عانى منه التونسيون من ظلم وقمع بسبب هيمنة رئيس الجمهورية على أجهزة الدولة وعلى آليات صناعة القرار.
واعتبرت الحركة أن السلطة الحقيقة يجب أن تنقل كليا إلى البرلمان، أي إلى الأحزاب التي تتمتع بالأغلبية البرلمانية. لكن نظرا لحجم الخلافات التي اندلعت حول هذه المسألة التي زاد من تغذيتها خوف معظم الأطراف السياسية من احتمال تغول الإسلاميين العائدين بقوة بعد إزاحة الرئيس بن علي، فقد تم التوصل إلى صيغة توافقية مكّنت من اقتطاع جزء من صلاحيات رئيس الحكومة، وتم تحويلها إلى رئيس الدولة، وهو ما جعل النظام شبه برلماني شبه رئاسي، وإن بقي رئيس الحكومة أقوى دستوريا من رئيس الجمهورية.
هذا النظام السياسي يتعرض اليوم للنقد من قبل العديد من الخبراء، ويحملونه جزءا من المأزق الذي تمر به تونس حاليا، وهو ما لفت إلى ضرورة مراجعته في اتجاه تعزيز صلاحيات رئيس الدولة على حساب رئاسة الحكومة.
وما عزز هذه الرغبة في تعديل الدستور الأزمة السياسية الراهنة، أن التونسيين وجدوا أنفسهم أمام حالة شاذة، وتتمثل في رئيس دولة قوي يتمتع بتجربة سياسية واسعة، مقابل رجل تكنوقراط مكلف بتسيير الحكومة، له كفاءة إدارية ونظافة يد، لكنه شخصية غير سياسية، وأعلن أنه لا يحب السياسة، رغم أن البلاد تمر بحالة سياسية عالية جدا.
هذا الأمر أثر على أداء الحكومة وعلى شعبيتها، ما دفع برئيس الجمهورية إلى التدخل والقيام بمبادرة قد تفضي إلى تغيير الحكومة ورئيسها، على الرغم من أن ذلك من صلاحيات البرلمان، وهو ما جعله يتهم بمخالفة الدستور.
هناك ثلاث نقاط أساسية تقف وراء صعوبة تطبيق النظام السياسي الراهن:
أولا: لا يزال الرأي العام في تونس تحت وطأة ثقافة سياسية سائدة بقوة في المجتمع تعطي أهمية كبرى لمكانة رئيس الدولة في قيادة الشعب. فالدولة الوطنية لم تنشأ بطريقة ديمقراطية، حيث لعب الزعيم بورقيبة دورا محوريا في إدارة الشأن العام، ما حال دون قيام مؤسسات مستقلة وقادرة على المشاركة في صنع السياسات والقرار.
ولهذا السبب، بقي التونسيون حتى بعد الثورة يتطلعون لدور أكبر وقيادي لكل من يتولى رئاسة الدولة ولا يقبلون في أعماقهم أن تكون شخصية الرئيس غير سياسية أو ضعيفة.
ثانيا: هناك فرق بين
النظام الرئاسي وبين النظام الرئاسيوي. فالأول يعدّ نظاما استبداديا وغير ديمقراطي لأنه يقوم على الشخصنة المطلقة وعلى تمكين ما يسمى بالرجل الأول من صلاحيات مطلقة وتجعله فوق إرادة الشعب وأعلى من كل المؤسسات الدستورية، في حين أن النظام الثاني هو نظام ديمقراطي مثل النظام الأمريكي أو الفرنسي على سبيل المثال، حيث يخضع الرئيس للآليات الديمقراطية التي تحد من انفراده بالسلطة.
ثالثا: كشفت التجربة أن هناك أزمة أحزاب في تونس، إذ بالرغم من الحقوق التي أصبحت تتمتع بها، ورغم الحريات التي تضمن لها تحقيق كل ما تريده إلا أن قدرتها على بناء سياسات بديلة أو إدارة شؤون الدولة لا تزال ضعيفة ومحدودة. ولهذا السبب يمكن أن تنتقل الأزمة من داخل الأحزاب إلى داخل أجهزة الدولة قبل أن تتحول إلى أزمة مجتمعية.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن تونس قد تجد نفسها في لحظة ما أمام مراجعة نظامها السياسي، وذلك من خلال الدعوة إلى تعديل الدستور في الباب المتعلق بالسلطة التنفيذية، وهو ما بدأ يتحدث عنه ليس فقط عدد من فقهاء القانون الدستوري، ولكن أيضا بعض السياسيين بمن فيهم كوادر عليا بحركة النهض.