قررت الحكومة
التونسية منع
حزب التحرير من عقد مؤتمره بإحدى قاعات العاصمة، ورغم أنه لا يقر بشرعية القضاء التونسي الراهن بحجة أنه لا يحتكم للشريعة، إلا أن الحزب تقدم بقضية للمحكمة الإدارية ضد الحكومة، وفوجئ الحزب بقرار المحكمة الإدارية التي أنصفته، حيث حكم ببطلان قرار المنع، لكن رغم ذلك أصرت وزارة الداخلية على حرمان الحزب من عقد المؤتمر، وبذلك يكون حزب التحرير هو أول حزب في تونس بعد الثورة يمنع بالقوة من تنظيم مؤتمره رغم تمتعه بالاعتراف القانوني.
كان من المتوقع أن يتجدد الصدام بين الحكومة وهذا الحزب بالذات، إذ تكررت الخلافات معه، وسبق أو وجهت له عديد التحذيرات، لكن المفاجأة التي حصلت أن عديد الأحزاب والأطراف العلمانية المختلفة كليا مع الحزب وتوجهاته، احتجت على قرار المنع، وهاجمت الحكومة بشدة، واعتبرت قرار المنع مخالفا للدستور وللديمقراطية.
بل ذهب الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي إلى حد القول ''عندما يبدأ التلاعب بالمبادئ وبالثوابت ثم بقرارات القضاء فاعلم أن الديمقراطية في خطر"، وأضاف "أن نقبل أيديولوجيا حزب التحرير أو أن نرفضه مسألة شخصية وخيار سياسي - والكل يعرف أنني أبعد ما يمكن عن هذا الخيار - لكن المبدأ الذي ارتضيناه في دستورنا أن لكل التونسيين - طالما أنهم لم يمارسوا العنف ولم يلجأوا للإرهاب البغيض - حق التنظم وحق الدفاع عن رؤاهم وبالتالي الحق في عقد اجتماع أو مؤتمر"، كما نددت أحزاب أخرى بالقرار من بينها حركة الشعب ذات التوجه الناصري، ووصفته بأنه "قرار سياسي وليس قانونيا".
لقد سبق أن أثار الاعتراف القانوني بحزب التحرير جدلا واسعا في تونس، ويستمر هذا الجدل إلى حد اليوم، إذ يكاد الحزب يشكل حالة شاذة في بلد يتجه نحو إرساء نظام ديمقراطي قائم على التعددية والاحتكام إلى سيادة الشعب، ورغم أن الحزب مقطوع الصلة بجميع مكونات المشهد السياسي، إلا أنه حافظ على الالتزام بشرطين هامين. أولهما عدم الاقتراب من دائرة العنف، حيث لم يثبت تورطه في أي عملية إرهابية إضافة إلى تنديده بتنظيم داعش، وثانيا خضوعه للإجراءات القانونية التي يقبل بتنفيذها على مضض لكنه يتجنب أن يجد نفسه متهما بالتمرد على القوانين ومؤسسات الدولة.
يتناقض حزب التحرير مع العلمانيين بشكل يكاد يكون مطلقا سواء على الصعيد الفلسفي أو السياسي، إذ يرى فيهم عملاء للغرب والاستعمار، ويتهمهم بتخريب الأمة ومحاربة الإسلام، ومع ذلك يجد العديد منهم يقفون اليوم إلى جانبه، ويدافعون عن حقه في الوجود وفي التمتع بكل الحقوق الدستورية والقانونية التي يوفرها الدستور والتشريع التونسي للأحزاب. فعلوا ذلك وهم يعلمون أنهم في ظل الخلافة التي يسعى حزب التحرير إلى إقامتها، لن يسمح لهم أن ينشطوا كأحزاب علمانية.
لا شك في أن هذا الموقف المبدئي الذي اتخذته هذه الأطراف العلمانية تجاه حزب التحرير يعتبر إيجابيا، حتى لو اختلط مع دوافع تكتيكية كما يقول البعض، فصحيح أن لحكومة الصيد وجهة نظر دفعتها إلى تضييق الخناق على حزب التحرير بحكم أنه يسعى نحو تقويض الدولة الوطنية، ولا يزال مصرا على رفع راياته السود البديلة عن العلم التونسي وغير ذلك من الاعتبارات، و لهذا وصف كمال الجندوبي وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان قرار المنع بأنه "قرار حكومي وطني سيادي ومسؤول، يستند إلى عدد من الدواعي الموضوعية".
لكن رغم ذلك فإن قرار منع عقد مؤتمر الحزب لم يكن يستند على مبررات مقنعة، وهو ما جعله يفسر بكونه إجراء سياسيا أكثر منه أمنيا، وبما أن حزب التحرير يتمتع بالترخيص القانوني، أصبح لزاما على مؤسسات الدولة احترام ما يضمنه التشريعات من حقوق لجميع الأحزاب بدون استثناء.
من المعضلات التي بقي حزب التحرير يعاني منها عدم قدرته على التكيف مع الخصوصيات القطرية، وذلك بالرغم من الفرص التي أتيحت له في أكثر من تجربة، فهو معترف به في بلدين من العالم العربي، لبنان وتونس، مع ذلك حافظ على نفس الخطاب، ونفس المقترحات، ونفس وسائل التنظيم والعمل، وكأنه فاقد القدرة على تعديل أيديولوجيته ورؤاه السياسية، فتونس تختلف عن الأردن أو عن اليمن، ولا يمكن أن يستوعب شعبها حلولا جاهزة لا تستجيب لحاجياته أو تتعارض مع خصوصياته، وتكفي الإشارة في هذا السياق أنه رغم المخاطر الكبرى التي تواجه البلاد بسبب ما تخطط له "داعش"، يصر الحزب على أن يكون مؤتمره تحت شعار "الخلافة القادمة منقذة العالم".
خلافات حزب التحرير لا تقف عند العلمانيين، بل تمتد لتشمل أيضا حركة
النهضة حيث سبق له أن اتهم قيادتها بالتخلي عن الإسلام بعد أن استجابت للضغوط ووافقت على عدم التنصيص على الشريعة في الدستور التونسي الجديد. وقد تعددت الاشتباكات اللفظية بينهما، ويعتبر حزب التحرير أن حركة النهضة شريكة في منعه من عقد مؤتمره بحكم كونها جزء لا يتجزأ من الائتلاف الحاكم، وإن أحد قادة الحركة قد اعتبر أنه "ليس من حق أحد أن يمنعه حقا من حقوقه بمجرد إجراءات إدارية، هذا ليس من سلوكيات الدول الديمقراطية".
يمكن القول بأن حزب التحرير قد تعرض لمظلمة عندما منع من عقد مؤتمره السنوي، لكن الأهم من ذلك أن الحزب مطالب بتغييرات جوهرية إذا كان يريد أن يضمن لنفسه موقعا مؤثرا في التجربة التونسية.