وجه الرئيس قائد السبسي وائتلاف حلفائه وأجهزة الدعاية المرافقة البلاد نحو وهم كبير يتمثل في أن المشكل الكبير في
تونس هو رئيس الحكومة، الذي اختاره ودافع عليه حتى نسي اسمه منذ أسبوع، واتحاد الشغل المنظمة النقابية الأكبر في البلاد، الذي أوصل الحوار الوطني الذي قاده منذ عامين البلاد نحو أجواء وانتخابات، أنضجت الوضع لانتخاب السبسي وحزبه آخر 2014. هذا الوهم الكبير مستمد من وهم مؤسس لحكم السبسي، أي وهم حزب كفاءات الأربع حكومات لأربع دول ولاف المليارات استثمارات ومئات آلاف من مواطن الشغل. مثلما قال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد هذا الأسبوع، في تصريحات يتم التعتيم عليها، فإن ممارسات رئيس الجمهورية تدفع عمليا لفرض واقع مخالف للدستور، حيث يفرض الرئيس بممارساته نظاما رئاسيا عوض تزام برلماني معدل. عملية التحيل باقية وتتمدد. لكن التحيل ليس سياسيا فحسب.
تركيز المعلقين حول أسماء المرشحين لرئاسة الحكومة وتركيبتها، لكن القليل يقال عن السياسات والبرامج، إذ يحصل كل هذا على خلفيات كوارث في الاقتصاد وشبهات تحيل وفساد. هناك قضية كبرى تستحق اهتماما مركزا الآن، وبدأت رائحتها تفوح وهي صفقة شراء "تونس للاتصلات" (تملك شركة الاتصالات الإماراتية 35% من أسهمها) لشركة مالطية للاتصالات (تملك نفس شركة الإماراتية أغلبية الأسهم فيها) بما قيمته 600 مليار، ممولة من بنك سويسري (يؤدي عادة دور مستشار للشركة الإماراتية) بنسبة فائدة مشطة (5% + labour)، وبعد تقييم للشركة المالطية فيه تضارب للمصالح قامت به مؤسسة يديرها رئيس المجلس الوطني للحزب، الذي ينتمي إليه الوزير المشرف على الصفقة، حزب آفاق أحد أحزاب التحالف الحاكم. للتذكير فقط 600 مليار في ميزانية تشهد عجزا كبيرا تماثل نسبة العجز لشركة الخطوط الجوية التونسية، وأقل بقليل من 800 مليار التي سكبتها الحكومة التونسية هذا العام لبنوك عمومية، تسبب في إفلاسها رجال أعمال قريبون من حاشية بن علي.
المصيبة الأكبر هي ملابسات ما يحدث لقيمة الصرف للدينار التونسي. الدينار يشهد أقل نسب الصرف مقارنة باليورو والدولار، والانخفاض يصل إلى أكثر من خمسين في المئة للسنوات القليلة الماضية. هناك أسباب مختلفة لذلك وعديدها موضوعية. فالبنك المركزي ورغم محاولته التحكم بشكل مصطنع في قيمة الدينار لم يتسطع منع تأثير تدهور الميزان التجاري، وانخفاض احتياطي العملة الصعبة بسبب انخفاض الاستثمارات الخارجية والدخل القادم من السياحة، وأيضا التحويلات المالية من الخارج، إضافة إلى ارتفاع نسب التضخم.
لكن يبدو أن المشكل يرجع أيضا حسب البعض إلى قرار سياسي عبر البنك المركزي. ما يتم التعتيم عليه الآن هو وثيقة الاتفاقية الأخيرة التي أمضى عليها ممثلو الدولة (منهم محافظ البنك المركزي) ،مع صندوق النقد الدولي في 2 ماي الفارط. ويرد في النقطة 18 الصفحة التاسعة ما يلي: "تم الاتفاق على مواصلة تخفيف نظام سعر الصرف عن طريق الحد من تدخلات البنك المركزي التونسي في سوق الصرف الأجنبي، للتمهيد لتقلبات المفرطة في سعر الصرف. ومن شأن سعر صرف أكثر مرونة أن يساعد على الحد تدريجيا من قيمة الدينار المبالغ فيها وتعزيز مواءمة أفضل مع أساسيات الاقتصاد الكلي. ومن المتوقع أيضا أن يخفف ذلك من أنظمة الصرف الأجنبي بطريقة تدريجية".
ولم يكن مصادفة إصدار البنك المركزي منذ أسابيع قليلة لورقة سياسات تطرح احتمالات "تخفيف" قيمة الدينار وفقا لتجارب مقارنة. ويبدو أن ما حدث منذ أسبوع كان تجربة أولية لمسار "التخفيف" هذا، ولكن ليس من الواضح أن تم تهيئة الوضع المالي في تونس لذلك خاصة بالنسبة لشركات التوريد واحتياطيها المالي.
الحقيقة أن المشكل المؤسس للوضع الحالي هو تحالف حكم متماهي مع تعليمات تكنوقراط غير معني بالاستتباعات السياسية للوضع في تونس. ولم يجد السبسي أي بديل لذلك، إلا إقامة وهم جديد وهو تحويل الاهتمام وتركيزه نحو "شيطان" جديد أي رئيس الحكومة الحبيب الصيد.
لكن لم يكن الصيد الذي قام بحملة انتخابية ووعد بآلاف المليارات وغيرها، تم التوافق عليه من التحالف الذي يقوده السبسي. لكن الآن يتم تحضيره من السبسي وحزبه وحلفائه لإعلانه كشماعة وكبش فداء يتحمل مسؤولية التحيل والكذب، التي أشرف عليها السبسي. هذا الأخير لا عهد له ولا يرغب في تحمل مسؤولية شيء، يحضر الآن لكبش فداء جديد فحسب. لا أحد من أجهزة الدعاية المعتادة يحمل السبسي أي مسؤولية. بعد سنة ونصف من خلق الأعذار للصيد يقومون بإغراقه هنا ويقومون بتكرار ما يريده السبسي "إحراج" القوى الأخرى. هل يمكن لأي عاقل أن يضع يده مع شخص متحيل مثل السبسي لإنقاذ الوضع في البلاد؟!
لم يعترف السبسي وحزبه بالفشل في إدارة البلاد وتحمل المسؤولية لكي نبدأ نقاشا واسعا حول أسباب هذا الفشل.. حالة الإنكار هذه باقية وتتمدد بدعم من أجهزة الدعاية المعتادة. ليس للسبسي ومجموعة غير الأكفياء الذين يتقافزون حوله ببدلاتهم الأنيقة (لا غير) ما يقدمونه. هم "كفاءات" ربطة العنق وعقلية "البلدية" و"الحقرة" والصفر بالمئة نمو وانهيار الدينار. ومبادرة السبسي الجديدة ليست إلا مبادرة لحكومة جديدة لسياسة التحيل الوطني.
السبسي ليس الحل ولا يمكن أن يكون صاحب مبادرة إيجابية. السبسي هو المشكل.