ما جرى من أمر نقل السيادة على جزيرتي
تيران وصنافير من
مصر إلى المملكة العربية
السعودية موجع، لا لأهل مصر وحدهم، بل لكل متابع عنده قدر من عزة النفس، على جانبي البحر الأحمر.
ليست المشكلة في نقل أرض من يد عربية إلى يد عربية أخرى. المشكلة في أن اليدين كلتيهما متحالفتان مع
إسرائيل، وأن النقل تم بمشاورة إسرائيل وإذنها ولمصلحتها، ودون مشاورة أهالي الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن تلك الأرض ضد إسرائيل بالذات. ثم المشكلة أن ذلك كله تم مقابل مال، فلو كان حقا معادا لأصحابه فتقاضي المال عليه فهو عار، ولو لم يكن حقا معادا لأصحابه وفرَّطَ فيه المؤتَمَنُ عليه مقابلَ المال، فالعارُ أكبر.
ولو كان نقل الملكية هذا يعني إخراج الجزيرتين، اللتين تتحكمان في اتصال إسرائيل بنصف العالم الشرقي كله، بما في ذلك أريتيريا ومن ورائها إثيوبيا ومنابع النيل، من جهة، والهند والصين من جهة أخرى، من اتفاقية السلام المشؤومة بين مصر وإسرائيل، لكان في الأمر نظر. ولكن هذا النقل يعني إدخال المملكة العربية السعودية في اتفاقية السلام المشؤومة تلك. وهذا أيضا تم دون استشارة المعنيين به، وهم الشعب في المملكة العربية السعودية، فهل يحبون أن يروا السفن الإسرائيلية تمر في مياههم الإقليمية وهم ينظرون؟
إن توسيع السلام بين العرب وإسرائيل، ليصبح تشابك مصالح اقتصادية، هو مقدمة لتطوير مصالح عسكرية استراتيجية مشتركة. وها إنك ترى الحكومة المصرية تتحالف مع إسرائيل عسكريا ضد كل من أهل غزة وأهل سيناء، والحكومة السعودية تظهر منها بين الفينة والأخرى علامات تدل على أنها تريد من إسرائيل أن تكون حليفا وموازنا استراتيجيا لإيران.
إن التصرف في الجزيرتين اللتين من أجلهما قامت حرب الأيام الستة، وضاعت القدس من أيدي العرب ومعها سائر فلسطين والجولان وسيناء، لصالح إسرائيل وبإذنها، هو استكمال لهزيمة عام سبعة وستين. فلم يصبح العرب بعد تلك الحرب مطواعين لإسرائيل خائفين منها فحسب، بل أصبحوا قابلين للتعاون ثم التحالف معها بعضهم ضد بعض. فهذا النقل الذي أذنت به إسرائيل تم كجزء من ترتيب إقليمي موجه ضد المصريين من أهل سيناء، والفلسطينيين من أهل غزة، واللبنانيين من أهل الجنوب، ثم ضد إيران.
لم أكن يوما من أنصار الحدود التي أنشأها الاستعمار البريطاني والفرنسي وقسم بها أمتنا إلى دويلات، ولم أنتَمِ أبدا لهذه الخطوط المستقيمة على الأرض، التي تشبه ألوانا يرسمها غزاة مراهقون لاهون على وجه سيدة كبيرة أسيرة لديهم ليهينوها. أنا من أسرة عربية قرشية انتقلت في القرن السابع الميلادي من الحجاز إلى مصر، وبقيت فيها قرابة ثلاثمئة وثلاث وسبعين سنة، إلى أيام المستنصر الفاطمي، ثم انتقلت إلى تونس والمغرب الأقصى، وبقيت هناك أكثر من مئة سنة، حتى ملك الأيوبيون مصر، فعادت إليها وحاربت معهم الإفرنج فأقطعها سلاطين مصر والشام من الأيوبيين ثم المماليك جبال بني زيد شرق فلسطين، وقلعة مجدل يافا التي تسمى اليوم مجدل الصادق، بين الجبل والساحل، وظلت الأسرة فيها ثمانمئة سنة وأكثر، إلى يوم الناس هذا.
ولذلك فلا أنا ولا أحد أعرفه من أهلي نعترف بهذه الحدود المضحكة من بنات أفكار تشرتشل وكرومر وستورز وفيلبي وويلسون ولورنس وسايكس وبيكو وغيرهم من أصحاب القبعات المستطيلة والبدلات التي تجعل ابن آدم يبدو كطائر البطريق، وتراب أجدادنا في الحجاز ومصر والمغرب والشام.
ولكن من حق مثلي أن يغضب من نقل هذه الجزر، لا لتقديس خط رسمه الاحتلال البريطاني بين الخديوية المصرية وسلطنة بني عثمان، بل لأن النقل تم لمصلحة غزاة إسرائيليين يهددون مصر والشام والحجاز والأمة كلها، ولأنه تم بشكل مهين لملايين من أبناء هذه الأمة. ولا أعني هنا المصريين وحدهم، بل أعني أهلنا على الجانب الشرقي من البحر الأحمر أيضا، الذين لم يستشرهم أحد، مرة أخرى، في أن يصبحوا طرفاَ في ترتيبات السلام مع إسرائيل.
إن مصر، بعد انهيار الجبهة الشمالية بسبب الحرب الأهلية السورية، هل الأمل المتبقي، استراتيجيا، لهذه الأمة، ولكن حكومتها الحالية هي أكبر خطر على هذا الأمل. وإنني من المعتقدين، لأسباب يطول شرحها، أن التغيير في مصر قادم، وأن إلغاء اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل أمر سيتلوه حتما، ولا أظن الإسرائيليين غافلين عن ذلك، وعليه فكل إضعاف لمصر، غير موجه لمصر المقيدة التي نراها اليوم، ولكن موجه لمصر الحرة التي يعلم الجميع أنها ستولد غدا لا محالة. إن الجزيرتين لم تُسحبا من يد جنرال لا يشكل خطرا على إسرائيل، ولكنها سُحبتا لكي لا يقعا في يد الثوار الذي سيحكمون مصر، وكل آت قريب.
ليست قطعة من التراب بيعت، بل بيعت قطعة من المستقبل. ولو كانت الأرض أعطيت لمصلحة الشقيق رضينا، ولكنها أعطيت لمصلحة عدونا وعدو شقيقنا سويا.