خمسة رجال من بين آلاف الرّجال الأخفياء في هذه الأمّة، الذين يفيضون بالخير، ويتجلّى فيهم ميزان القسط الربّاني، وبعض من نفحات رحمته التي تجعل الخير في هذه الحياة ممكنًا؛ كشفت عنهم كتائب القسام أخيرًا، ولكنّها كشفت أن خيرية هؤلاء أيضًا كانت استثنائية، حينما أودعت صدورهم سرًّا تعلق به آلاف المعتقلين
الفلسطينيين، وآلاف الأسر الفلسطينية، وبحثت عنه الكرة الأرضية كلها، بعدما أسرته القسام وخبأته في شريط ساحلي صغير وضيق ومحاصر يملك العدو خبرة بكل شبر من ترابه.
بحثت أجهزة الشاباك والموساد وأمان عنه، وأرسلوا خلفه كل التقنية المتوفرة في أيديهم، إن لم تكن كل التقنية المتاحة في الأرض اليوم، وعملاءهم ومخبريهم، وخاضوا حروبًا للوصول إليه، واستعانوا بمخابرات الكون كلها، كان العرب والعجم يبحثون عنه، ودول العالم الكبرى مشغولة به، وهو مدفون في صدور رجال عرفنا بعضهم بعدما أكرمهم الربُّ، جلّ وعلا، بالشهادة، فتحققت فيهم الخيرية من أطرافها، واستمروا يفيضون على الناس من عليائهم بالغنى والخير والحب والجمال والأمل، ويقومون بالشهادة على العالمين في عالمي الشهادة والغيب، وينصحون للأمة في الحياتين إلى أن يرفع الله الخير من هذه الأرض.
كان يُعتَقَل الرجل من المناضلين، ويدخل تجربة التحقيق في زنازين العدو، وهو يخفي في صدره أسرار رجال آخرين، يشاركونه الدرب والهمّ، فيضيق صدره بالسر الكبير، فإما أن يحترق به، أو ينفجر به، فيحسم بعضهم، بعد أن يدرك قسوة السر، أمره بألا يودع صدره سرًا، وألا يطويه على الأمانات الثقيلة، رفقًا بنفسه وبالآخرين.
الذي لم يجرّب حمل ما تنوء به الجبال، وما تئنّ تحته السماوات والأرض، لن يعرف فرادة الطينة التي جبل منها هؤلاء الرجال، الذين استحال سرّهم الحارق بردًا وسلامًا في صدورهم، بعدما استحالت نفوسهم آمنة مطمئنة، فاستكانت قلوبهم إلى إيمانها، وسترتهم ملامح وجوههم المستقرة، ولم تنبئ تضاعيف وجوههم بسرّها المخزون، لقد كان عبد الرحمن المباشر يسخر بابتسامته الجميلة من آلاف المخبرين في الأرض، وسامي الحمايدة، وعبد الله لبّد، ومحمد داود، وخالد أبو بكرة، يهزمون أعتى أدوات الطغيان والاستعمار، بهدوء مذهل، وكأنهم يحملون على ظهورهم قشّة، لا سرًا بوزن الأرض التي يطؤونها، ودون أن يخطر على قلب امرء منهم ذلك الخاطر الذي لا ينفك عن قلب الإنسان. لم يقل واحد منهم "أنا". أنكروا أنفسهم كي تصلح الحياة.
أيًا كانت أهداف كتائب القسام من كشفها عن وحدة الظلّ فيها، ورجالها الأخفياء، وهي ماضية في جهادها، تجعل من "خفاء" جنودها رافعة معنوية لشعبها وأمّتها كلها، وتثبت قدرة الفلسطيني على تطويع كل الظروف المعاندة، وفي الوقت نفسه تزرع الشكّ والوجل في صفّ عدوها، وتفتح ثغرة في نسيج يقينه الهشّ والقلق والمتوجس دائمًا؛ فإنّها، كشفت، أيضًا، عن رجال هم من أحبّ خلق الله إلى الله، وأجدر الخلق بمحبة الناس.
ونحن لا نتألى على الله، وقد جاء في الحديث: "إنّ الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، وأصل هذا الحديث أن عمر بن سعد بن أبي وقاص قال لأبيه سعد: "أنزلت في إبلك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟!"، فضرب سعد في صدره وقال: "اسكت". سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنّ الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، لقد اعتزل سعد صراع الناس على الملك وانقطع في إبله إلى ربه، وقد اعتزل رجال الخفاء الخمسة كل ما يستبد بنفوس الخلق من شهوات الدنيا الظاهرة والباطنة، وانقطعوا منفعة للناس، جهادًا وتضحية في خفاء تام، وكأنّهم ذلك الرجل الأول الذي قصده النبي بقوله: "من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير"، واختار رجالنا الخمسة أن يكونوا الرجل الأول.
والغنى، غنى النفس، لا غنى المال، وفي الحديث: "ولكنّ الغني غنى النفس"، ومن أمثلة ذلك أن النبي كان يعطي الرجل ويدع الرجل، فقال ذات مرة: "أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب"، فقال عمرو بن تغلب: "فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم".
وكأنّ الله أوكل رجالنا الخمسة إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير، فاحتوت تلك القلوب السرّ الثقيل باطمئنان، واستأنست في خفائها، وعاشت لغيرها، واتزن بوجودها نظام الوجود، وأبلغت النصيحة مرتين في الحياة وبالشهادة، وعاشت وقضت وهي تتلو قوله جلّ وعلا: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ".