الوضع المأزوم في مصر، جار على الخيال فغيبه، ولم يعد لدى جماعة الانقلاب إلا استدعاء "الاسطوانات المشروخة"، في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، من أجل تخليق شرعية لعبد الفتاح
السيسي، الكل على جمهوره، فأينما يوله لا يأت بخير. حتى وصل بنا إلى الدعوة للاحتشاد الوطني، وترك الخلاف، لمجابهة القوى الخارجية التي تكيد لمصر، وتعمل على "إفشال" حكم الرئيس!.
لقد كانت وجهة نظر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، المرشد الروحي لعبد الفتاح السيسي، أنه بمزيد من الدماء والاعتقالات سيتم طي صفحة الإخوان المسلمين، كما حدث في عهد عبد الناصر، ثم كانت النصيحة بتدشين مشروعات قومية يلتف حولها المصريون، كما حدث في عهد الزعيم خالد الذكر. ثم كانت فكرة تخليق أزمة خارجية، تدفع للالتفاف حول "الزعيم الركن"، كما حدث مع عبد الناصر في حربه مع إسرائيل، وقد حاول السيسي الهروب من الفشل إلى معركة خارجية، في ليبيا وغيرها، لكن الظروف الدولية لم تكن مواتية، ولم يكن غريبا مع اعتماد "كتالوج" هذه المرحلة، الذي تحول إلى "اسطوانة مشروخة" بسبب سوء الاستخدام، أن يعتبر أنصار السيسي في قيام بعض الدول الغربية بوقف رحلاتها السياحية لمصر، وسحب بعض هذه الدول لرعاياها من شرم الشيخ، أنها مناسبة طيبة لمخاطبة المشاعر الوطنية، و"إعادة شحن" عواطف المصريين في اتجاه نصرة البلد، الذي جرى اختزاله في السيسي، باعتبار أن مصر تواجه تحديات خارجية، ومحاولات غربية لإضعافها.
هذه الدعوة تأتي في وقت، أعطى المصريون فيه للسيسي ظهورهم، ولم يكترثوا بدعوته لهم بأن يهبوا إلى لجان الانتخابات، وكان هذا العزوف كاشفا وليس منشئا، أن السيسي فقد شعبيته داخل دوائره، فقد قسم الشعب إلى قسمين، بحسب الأغنية الرسمية المعتمدة من نظامه "إحنا شعب وهما شعب". ولأن فشله غير مسبوق، فقد خسر شعبه، وبدأ الناس التخلي عن خوفهم حتى صار طبيعيا أن يُلعن من البسطاء في الشوارع، وفي الحافلات، وأمام الكاميرات، فلم يعد يملك ما يقدمه سوى وعود تخرج من فمه ميتة، عن انخفاض الأسعار بعد شهر، غير عابئ بأن الشهر ليس ببعيد، لكنه العقل المأزوم، الذي يدفعه للتعامل على أنه "رئيس باليومية"، يعمل وفق قاعدة "يوم بيوم"!
لم يعد لأنصاره، ما يدافعوا به عن اختيارهم، بعد سقوط كل الدعاية القديمة، فلهذا عندما تواجه أحدهم بسؤال: ماذا بقي من السيسي من كرامات تدعو لتأييده؟، فإنه يبلع ريقه وهو يقول: يكفي أنه قضى على الإخوان. وكنت أطلب دائما عدم التوقف عند هذه الإجابة، وإنما ينبغي أن تواصل الحوار بطرح سؤال مهم: وهو ماذا فعل لك الإخوان؟! فعندما أفعل هذا مع القوم يكون الرد ارتباكا، من سائل بدا كما لو كان مفاجأ بالسؤال!.
الآن، لم تعد هذه الإجابة مناسبة، فالسيسي لم يقض على الإخوان، فالإخوان صاروا أكثر حضورا منه، ولو بالتلفيق الذي يقوم به حكم السيسي ولا يدري ماذا يفعل، فانهيار الاقتصادي المصري، وهزيمة الجنيه أمام الدولار، قالوا إن وراءها الإخواني "حسن مالك"، وتحول محافظة الإسكندرية إلى بحر متلاطم الأمواج، قالت وزارة الداخلية إن المسؤول عن هذا هم الإخوان، وأعلنت القبض على خلية "البلاعات الإخوانية"، التي قامت بسد الصرف الصحي للمحافظة بقطع إسمنتية. وبهذا فإنه تم سحب الإنجاز الوحيد للسيسي لدى أنصاره، وهو الخاص بأنه قضى على الإخوان، وقد تحول الإخوان إلى عفريت يخشى أن يفتح أحدهم الصنبور في منزله فينزل منه المرشد العام.
وقد استمعت لأحدهم يتحدث في إحدى الفضائيات عن فشل زيارة السيسي إلى لندن، ويرجع هذا الفشل إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي حركت الإعلام البريطاني والإنجليز لنقد الزيارة، وتفجير قضية الطائرة البريطانية التي أُطلق عليها صاروخ، لكن الطيار تمكن من النجاة بأعجوبة. بل وصل الحال إلى حد أن إعلام السيسي الآن يروج بأن القرار البريطاني بسحب السائحين البريطانيين من شرم الشيخ يقف الإخوان خلفه.
وقد بدا السيسي – والحال كذلك – شخصا فاقدا لمبرر الاستمرار في السلطة التي اغتصبها، ولهذا احتشد الذين من شيعته، لدعوة الشعب المصري لنسيان الخلافات، والاحتشاد خلف "الزعيم الركن" وهو يواجه التحديات، ومحاولة إسقاط مصر على يد الغرب، بعد قيام سبع دول غربية بوقف السياحة لمصر، من بينها موسكو التي كانوا يتعاملون معها على أنها تقف في ظهر السيسي، وأن اتجاهه شرقا يعني تحرير القرار المصري من التبعية الأمريكية.
وهذه الدعاية تأتي استلهاما من دعوة الاحتشاد خلف جمال عبد الناصر عقب هزيمة 1967، إذ تم الترويج الإعلامي لها على أنها محاولة إسرائيلية لإسقاط الزعيم، فكانت "لعبة التنحي"، وبالمناسبة فقد نصح "هيكل" السيسي منذ فترة باستخدام لعبة التنحي، لكن السيسي ليس مغامرا، فإذا كانت الجماهير خرجت تطالب عبد الناصر بالعدول عن قراره، فما الذي يمنع من أن تخرج الجماهير في حالة السيسي لتحتفي بالقرار؟!
موقف أنصار السيسي من الغرب يعاني من الاضطراب، فإن بدا عدم اكتراث الغرب به، أعلنوا أن هذا دليل وطنيته، وليس أدل على هذا من وصفهم لأوباما، بأنه إخوان، وأن شقيقه عضو بالتنظيم الدولي للجماعة، ثم عندما يسافر السيسي إلى أي بلد، أو يأتي إليه ضيف غربي، أو تتم الموافقة على منح أسلحة للجيش المصري يجري التهليل لذلك، فهذا دليل على أنه الرئيس الشعبي المقدر دوليا، يوشكون أن يستدعوا العبارة الشعبية التي تقول من باب "كيد النساء": "يا عوازل فلفلوا".. راجع أغنية "يا عوازل فلفلوا" لفريد الأطرش. ومن قبل صرح وزير خارجية الانقلاب بأن العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية علاقة زواج كاثوليكي!
فعندما أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية صفقة الطائرات الـ "اف 16" في بداية الانقلاب جرى التعامل مع الوقف باعتباره دليل استقلال القرار المصري في عهد السيسي، وعندما تم تسليمها، تعامل أنصار السيسي على أن هذا دليل على شرعيته، وقدره في المجتمع الدولي.
الموضوع وما فيه، أن الغرب الذي جامل الانقلاب بما فيه الكفاية، لم يستطع أن يغامر بشعبه منحة لانقلاب فاشل، جرى الاتفاق على تفاصيله في السفارة الأمريكية بالقاهرة، وحصل على موافقة الاتحاد الأوروبي، وإذ صمت البريطانيون لشهرين على محاولة إصابة طائرة بريطانية بصاروخ طائش، فلأن إعلان هذا في حينه سيجعل زيارة السيسي غير مرحب بها بريطانيا، وهناك ضغوط بذلت على رئيس وزراء بريطانيا من الإماراتيين، لإتمام هذه الزيارة، لكن بعد سقوط الطائرة الروسية، تعامل الرجل على أن الضغوط تقدر بقدرها فهي تستهدف إتمام الزيارة وقد تمت، فلا تثريب عليه الآن من إجلاء السائحين البريطانيين من شرم الشيخ، في ظل هذه الفوضى التي تحكم مصر في ظل حكم العسكر، فيقتل الجيش سياحا مكسيكيين، وينطلق منه في مناورات عسكرية صاروخ كاد أن يصيب طائرة بريطانية، ويبدو أن الإهمال سبب في تفجير الطائرة الروسية، ورئيس الحكومة ليس مستعدا لتدمير مستقبله السياسي حبا في السيسي، فنساء بريطانيا لسن كنساء شعب السيسي "حبلى بنجمه" كما جاء في قصيدة شاعر الغبراء التي نشرتها صحيفة "المصري اليوم"!
ما علينا، فالدعوة للاحتشاد خلف الرئيس السيسي الذي يواجه التحديات الغربية، تأتي بينما السيسي نفسه غائب عن المشهد، وقد ارتاح لهذا النوع من الدعاية غير مدفوع الثمن، فمن قبل وصفوه بأنه عبد الناصر، دون أن يقول هو ماذا يمثل له الزعيم الراحل، فكسب دعاية مجانية داخليا، ودون أن يتحمل تبعات ذلك، فلن تساعد السعودية، أو تناصر إسرائيل، أو تنحاز الولايات المتحدة الأمريكية، لجمال عبد الناصر، أو من يقتدي به.
لا بأس فأنا على أتم استعداد، لأن أنسى مرسي وشرعيته، والديمقراطية والحرية، والمعتقلين والانتهاكات، بل وأنسى الثورة ذاتها، إذا أطل السيسي برأسه وأعلن أنه في مواجهة مع الغرب، وأنه يدعو لنصرته، لكنه لن يفعل، لأن شرعية انقلابه يستمدها من هناك، ولأنه ليس أكثر من أداة لتدمير الثورة وحق الشعب المصري في اختيار من يحكمه، لاستمرار التبعية والفقر بواسطة العسكر في المستعمرات القديمة.
عندما يدعون للاحتشاد خلف السيسي لمجابهة المخطط الغربي، الذي يسعى لتدمير مصر، فإنهم يضحكون على الذفون، لأن السيسي هو أداة هذا المخطط الغربي واستمراره في الحكم هو استمرار عملية التدمير.
فضوها سيرة فقد هرمنا
[email protected]