إنه السيناريو المثالي الذي كنت أتمنى حدوثه في أول
انتخابات برلمانية في عصر السيسي، من حيث نسبة المشاركة، ودور المال السياسي، والوجوه الفائزة.
الانتخابات البرلمانية هي الاختبار الأول لنظام عبد الفتاح السيسي، حتى انتخابات الرئاسة التي فاز فيها بأغلبية كاسحة لم تكن معيارا للحكم، باعتبارها كانت قائمة على وعود وغيبيات، أما الآن وبعد قرابة العام ونصف على توليه رئاسة الجمهورية هناك واقع يمكن التعامل معه والحكم على أساسه ومن ثم اتخاذ المشاركة أو تبني قناعة بعدم جدواها.
تتناسب نسبة المشاركة في الانتخابات طرديا مع معدلات الأمل، عندما قامت الثورة منحت الناس جرعة مكثفة من الأمل والتفاؤل بالمستقبل فانعكس ذلك أمام اللجان وبلغت نسبة المشاركة نحو 65% من إجمالي الناخبين المقيدين، وشارك 32.2 مليون مواطن من إجمالى 49.2 مليون مواطن لهم حق التصويت.
بعدها جاءت جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية بين مرسي وشفيق لتسجل نسبة مشاركة بلغت 51.9%، ووقتها برر المحللون ذلك بأن انتخابات البرلمان غالبا تسجل مشاركة أكبر من نظيرتها الرئاسية على اعتبار أن أبناء الدائرة يعرفون المرشحين بشكل مباشر ويعرفون أن نتيجة الانتخابات ستؤثر على المجتمع المحلي الذي يعيشون فيه فعلا، بخلاف انتخابات الرئاسة التي لا يعرف غالبية الناس مرشحيها إلا من التليفزيون.
لكن نسبة المشاركة في انتخابات الرئاسة بين السيسي وصباحي انخفضت إلى 47,45% رغم الحشد الكبير الذي قامت به وسائل الإعلام وحملات التخويف من المؤامرات الكونية التي كان هدفها إرهاب
المصريين ودفعهم للخروج الكثيف والتصويت للمرشح المنقذ عبد الفتاح السيسي.
وإذا كان الانخفاض طفيفا بين انتخابات (مرسي – شفيق) و (السيسي – حمدين)، فإن تراجع نسبة المشاركة بين برلماني 2011 و2015 جاء مروعا، فبينما شارك في الأولى 65% من إجمالي الناخبين، شارك في الثاني 26% فقط، بما يعني أن اثنين من كل ثلاثة شاركوا في الأولى، قاطعوا الثانية، وهذا أصلا بافتراض صحة النسبة التي تم إعلانها بشأن انتخابات 2015 والتي تحيط بها الكثير من الشكوك.
هذا الإحجام لا يعني سوى أن المصريين فقدوا الثقة في المستقبل وكفروا بالسياسة، وبأن حملات التخويف من عودة الإسلاميين تحت عباءة حزب النور ومن شماتة الإخوان في الدولة المصرية لم تعد تجدي، وبأن السيسي بعد عام ونصف على مقعد الرئاسة فقد الكثير من بريقه وتأثيره، لأن هذه النسبة جاءت رغم أنه خرج شخصيا ليلة الانتخابات وطلب من المصريين بإلحاح المشاركة فيها.
وهناك نتيجة واحدة لدائرة واحدة يمكنها تلخيص كل ما سبق وإعطاء صورة أكثر وضوحا بشأن ما يسمى "الانتخابات الحالية"، ففي انتخابات 2011 بدائرة الدقي فاز الدكتور عمرو الشوبكي بالمقعد بعد حصوله على 160 ألف صوت أمام مرشح الإخوان عمرو دراج الذي حصد 155 الف صوت، وفي انتخابات 2015، فاز ابن مرتضى منصور بمقعد الدائرة نفسها بعد حصوله على 21 ألفا و800 صوت، في حين حصد عمرو الشوبكي 21 ألف صوت.
يحاول كثيرون التقليل من نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية رغم أنهم أنفسهم من كانوا يتحدثون في السابق عن أن انتخابات البرلمان تحديدا تحظى بنسب مشاركة مختلفة، لكن الأكيد أن بعض الدوائر في النظام الحالي تشعر بقلق شديد إزاء ماحدث، لأنها ستبقى متخوفة مما قد يفعله في المستقبل المقاطعون لأسباب سياسية وغير المهتمين لأسباب اقتصادية بعدما أعلنوا صراحة كفرهم بآلية الصندوق.
كنت أنتظر ظهور المال السياسي بشكل كبير في الانتخابات الحالية وهو ما حدث، واشتكى أفراد وأحزاب وائتلافات معروفة بدعمها للنظام من استخدام منافسيهم للرشاوى الانتخابية علنا، ورصدت الصحف والفضائيات عمليات شراء أصوات مكثفة وكانت تعلن تسعيرة الصوت يوميا بكل بساطة وكأنها تعرض تسعيرة الخضروات.
دلالة ذلك أن نسبة أخرى من بين الـ26% نزلوا إلى الانتخابات فقط للاستفادة بثمن صوتهم دون قناعة حقيقية بقدرتها على تحسين أوضاعهم، ودلالة ذلك أيضا أن كثيرا من النواب لن يتمتعوا بأي ظهير شعبي في دوائرهم يجعلهم قادرين على الحشد والتأثير على الناس داخل دوائرهم، لأن الغالبية الساحقة لم تنتخبه، وكثيرا ممن انتخبوه فعلوا ذلك فقط من أجل المال.
أما عن الوجوه التي دخلت برلمانهم فحدث ولا حرج، بين مخبر كل مؤهلاته أنه يحصل على مكالمات من الأمن ويذيعها على الهواء، ومعالج بالأعشاب متهم في 10 قضايا، وشاب نجح فقط لأنه بذيء ابن بذيء، ورجال أعمال جمعوا ثرواتهم من حرام مبارك، ولواءات سابقين لا يتخيرون عن اللواء حسام خير الله في ولعه بحب الكواكب، وصحفيين أكلوا على كل الموائد ونافقوا كل من حكم مصر، مبارك كان أم عسكر أم إخوان، وشباب باعوا الثورة بدراهم معدودة ومستعدون لبيع النظام الجديد ومن سيأتي بعده بدراهم أخرى.
هذه التركيبة لن ترى منها أداء أفضل من برلمان الإخوان، وإن كان الأخير حفظ له شخصيات مثل عمرو حمزاوي وعمرو الشوبكي ومصطفى النجار وزياد العليمي بعض التوازن، كذلك لن تكون مشغولة ولا معنية بالدفاع عن قضايا العدالة الاجتماعية ومساندة الفقراء ومواجهة الحكومة إذا اتخذت أي إجراء بالشرائح الأقل دخلا، وبالتأكيد لن تتصدى لقضايا الحريات باعتبارنا في حالة حرب على الإرهاب، إذن كل ما يمكن أن يفعله مجلس بهذه النوعية من الأعضاء أنه سيكون ظهيرا تشريعيا لرئيس لم تزد تشريعاته الناس إلا فقرا.
حين كنت أقف في طابور اللجنة عام 2011 أحاول إقناع الواقفين معي بضرورة التنوع ووجود توازن داخل البرلمان وخطورة صناعة حزب وطني جديد اسمه الحرية والعدالة، كاد كثير منهم يُخرجون أمعائي لأنني ضد الدين وأكره الإخوان فقط لأنهم ناس "بتوع ربنا" وأن هذه البلد لن يقيمها إلا ناس حريصة على الدين مثلهم، وبعد 5 شهور فقط كان هؤلاء قد اقتنعوا بأن الإخوان غير جديرين بالحكم، ليس بالدعاية المضادة ولا حملات معارضي الجماعة، لكن بأداء نوابها أنفسهم وسقطاتهم وانحيازاتهم، لذلك عندما صدر حكم بحل المجلس الذي انتخبه عشرات الملايين لم يهتم أحد ولم يغضب لأن صوته راح هباء، لأنه كان قد اقتنع فعلا بأن هذا البرلمان لا يستحق الآمال التي عقدها عليه.
دع التجربة إذن تأخذ مجراها، دعهم يسيطرون على كل مؤسسات الحكم والتشريع في الدولة بعيدا عن مضايقات العملاء والطابور الخامس، دعهم يديرون الدولة كيف شاءوا حتى لا يتحججوا ساعة الحساب بأنهم لم يحصلوا على فرصة كاملة، دعهم يتعاملون بشكل مباشر مع الشعب الذي دمروا وعيه وقتلوا مشاعره وحولوه إلى قطعان من "الزومبيز".
والآن ليس مطلوبا منك سوى إحضار طبق فيشار وزجاجة مياه غازية، والاستعداد لمشاهدة ممتعة.