ثمة جديد، هذه المرّة، في الزيارة ـ غير المبرمجة مسبقا، كما يتوجب التذكير ـ التي قام بها رئيس الوزراء
الإسرائيلي، بنيامين
نتنياهو، إلى العاصمة الروسية
موسكو، مؤخرا؛ وثمة طارئ استدعى التعجيل بالزيارة، واقتضى اللقاء وجها لوجه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويكفي، للتدليل على خصوصية هذه الزيارة تحديدا، أنّ نتنياهو لم يذهب على رأس وفد سياسي أو دبلوماسي أو اقتصادي، أو حتى علمي ـ تقني (لكي يكون الاتفاق النووي بين إيران والغرب على جدول الأعمال مثلا)؛ بل كان أبرز مرافقي نتنياهو هما غادي أيزنكوت، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وهرتزل هاليفي، رئيس الاستخبارات العسكرية. أخيرا، هذه المرّة يذهب نتنياهو علاني، لا كما فعل في أيلول (سبتمبر) 2009، حين قام بزيارة سرّية خاطفة، دامت ساعات؛ بل يتقصد إحداث مقدار من الضجيج والعجيج والإعلام، يليق بحجم الابتزاز الواجب ممارسته على موسكو.
كذلك، في جانب آخر من خصوصيات هذه الزيارة، فإنّ أحدا لا يجهل دوافعها، أو يكترث بالتعمية على أغراضها، حتى بوسائل التحايل الدبلوماسي المعتادة؛ بل، أكثر من هذا وذاك، لعلّ الاتفاق على منافعها، رغم أنها محدودة ومحددة ومنحصرة النطاق، يكاد أن يرتقي إلى مستوى التوافق: في إسرائيل كما في روسيا، كما في أمريكا. أليست فضيلة الفضائل، عند الأطراف الثلاثة، أن تتوصل إسرائيل إلى اتفاق مع موسكو، تسهر عليه لجان عسكرية وأمنية مشتركة، يحول دون وقوع أيّ "سوء تفاهم" في الأجواء السورية، بين قاذفات إسرائيلية آتية لقصف قوافل تسليح "حزب الله" في لبنان؟ أليس من مصلحة إسرائيل أن تضمن موسكو، عبر معدّاتها الجديدة المعقدة التي نُشرت في مطار حميميم، ومحيط بلدة جبلة، وشواطئ طرطوس، وتخوم حماة… أيّ ارتطام في الأجواء السورية بين قاذفات الـ"سوخوي 27" الروسية، والـ"F-15" الأمريكية الإسرائيلية؟
الطرف الوحيد الذي يلعب دور "الأطرش في الزفة"، ولكنه في الآن ذاته كتلة من الآذان الصاغية، هو "محور الممانعة"، في صدارته الإيرانية بادئ ذي بدء، ثمّ تفريعه الأهمّ عند "حزب الله" اللبناني، وروافده الأقلّ شأنا هنا وهناك في الشرق الأوسط. وهذا المحور يتجاهل، عن سابق عمد يدعو إلى الشفقة والضحك معا، ضرورة تفكيك معادلة التناقضات الفاضحة التالية: كيف يصحّ أنّ "حزب الله" يعلن أنه يقاتل مع النظام السوري من أجل تحرير القدس وإسقاط المؤامرة الصهيو ـ أمريكية في سوريا، في حين أنّ بشار الأسد هو نفسه الذي ناشد الروس أن يرتقوا بوجودهم المتواضع في سوريا إلى مستوى القاعدة العسكرية الاستراتيجية الكبرى، وهذه القاعدة هي ذاتها التي سوف تحمي القاذفات الإسرائيلية حين تحلّق في الأجواء السورية، وكبرى أهدافها تتمثل في قصف قوافل تسليح "حزب الله"؟
فإذا عفّ "محور الممانعة" عن الخوض في مستنقع التناقضات هذا، واستمرأ حال "الطرش" التامّ في غمرة "الزفّة" الضاجّة الصاخبة؛ فماذا سيقول عن ارتقاء التنسيق العسكري، ليس بين نظام الأسد وموسكو هذه المرّة، بل بين الجيش الإيراني الباسل، والجيش الروسي… الباسل، أيضا، بدليل مآثره في بلاد الشيشان مثلا؟ قبل أيام أعلن الأدميرال حبيب الله سياري، قائد القوة البحرية للجيش الإيراني، أن بلاده تعتزم إجراء تدريب بحري مشترك مع روسيا. ونقلت وكالة أنباء "إسنا" الإيرانية قوله إن التدريب سيجرى خلال زيارة مجموعة الأساطيل الـ36 للجيش الإيراني إلى روسيا خلال الشهور المقبلة؛ متبرعا بتقديم معلومة إضافية: "أجرينا تدريبا مشتركا مع مجموعات الأساطيل الروسية والهندية في مياهنا خلال الفترة الماضية".
الإنصاف يقتضي استكشاف سبب واحد على الأقلّ، جوهري تماما مع ذلك، يجعل "محور الممانعة" على اتفاق تامّ مع كلّ من موسكو وتل أبيب: أنّ المحور والعاصمتين تجاهد للإبقاء على النظام السوري، حتى بمعنى تمديد موته البطيء ما أمكن. فكيف إذا التقى هذا الاتفاق مع سياسة يعتمدها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إزاء الملفّ السوري، ولا تنتهي خلاصاتها إلا إلى ما تنتهي إليه رغبات طهران، وتل أبيب، وموسكو؟ وكيف إذا كانت العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، من باب الساحل السوري، تمنح موسكو منصّة رقابة على التمدد الإيراني في سوريا، وسلطة ضبط معدّلات النفوذ الإيراني في سوريا؛ كما تجعل من موسكو، في المحصلة الأخيرة، وسيطا متعاطفا مع إسرائيل بصدد أنشطة إيران النووية؟
أليست كلّ هذه المغانم كفيلة بإخراس ألسنة "الممانعة"، مقابل إسالة لعابها حول احتمال ما، أيا كان ضعفه، ينتشل الأسد من الهوّة، حتى إلى حين؟ ليس تماما، في الواقع، بدليل تعبيرات الضيق التي أخذت تتسلل في تعليقات ممثّلي "الممانعة" على تعاظم الوجود العسكري الروسي في سوريا، واقترانه بتعاظم التنسيق الروسي - الإسرائيلي.
ولكن، في المقابل، ما الذي يمكن لأيّ طرف "ممانع" أن يفعله إزاء طرازَيْ التعاظم هذَين، بين موسكو وتل أبيب؛ خاصة وأنّ رأس النظام الروسي قد آثر التمرّغ في أحضان "الروليت" الروسية، على نحو من التبعية العارية أتاح للرئيس الروسي أن ينطق باسم النظام، فيطمئن إسرائيل، ويعلن أنّ الأسد لا ينوي فتح جبهة ثانية في الجولان؟ لا شيء يمكن فعله، هنا أيضا في الواقع، ما خلا اضطرار "الحرس الثوري" الإيراني، وميليشيات "حزب الله" إلى متابعة الخوض في المستنقعات ذاتها، هنا وهناك في سوريا.
ويبقى أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية باتت أفضل حالا من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض، فباركها وامتدحها.
ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سوريا، في نيسان/ أبريل 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سوريا بصواريخ أرض ـ جوّ متطورة)، كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساسا، لم تكن خافية على الكرملين. اليوم تدرك موسكو أنّ ثمن تعديل علاقاتها مع نظام الأسد لم يرتفع كثيرا فقط، بل صار باهظا تماما، ولا تقسيط في سداده كما كانت الحال سابقا.
يبقى، أيضا، أنّ بوتين يمارس لعبة استعراض العضلات العسكرية في الساحل السوري ـ بعد أن تعثّر الاستعراض ذاته في جورجيا، أو تباطأ على صعيد التسابق في ميدان صناعة الصواريخ الاستراتيجية ـ لكي يقايض الولايات المتحدة، والحلف الأطلسي، بدور لموسكو في المنطقة على غرار الدور السوفييتي في مصر مطلع سبعينيات القرن الماضي.
وبهذا المعنى فإنّ نتنياهو يذهب إلى موسكو اليوم، وهو يدرك أنّ معادلات المنطقة تعيش حقبة "شرق أوسط أوباما"، حيث فلسفة عدم التدخّل الأمريكي تفتح البوّابات -جمعاء ربما، حتى في إسرائيل ذاتها- لأشكال شتى من التدخّل الروسي. فما الذي سوف يدفع نتنياهو إلى الاعتراض على وجود عسكري روسي متعاظم في الساحل السوري، ما دامت أغراض ذلك الوجود لا تتناقض البتة مع مصالح إسرائيل، فتؤجّل سقوط نظام الأسد، وتتناغم مع القاذفات الإسرائيلية حين تحلّق لتأديب الأسد/ "حزب الله"، معا؟
وأيّ عزاء، والحال هذه، لـ"محور الممانعة"؟
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)