يعتقد البعض ان النظام الانقلابي في
مصر أصبح واقعا سياسيا على الجميع التعامل معه، والانصياع له، وفي أحسن الأحوال ممارسة المعارضة من داخلة على طريقة تلك المعارضة لنظام مبارك ومن قبله السادات، وهي ما تعرف بمعارضة الهامش الديمقراطي الذي يسمح به النظام لمجرد التنفيس وليس للسماح بتغيير حقيقي.
ويسوق هؤلاء حججا لصحة كلامهم أهمها أن النظام يتحكم في أهم مفاصل القوة وهي القوة العسكرية والآلة الإعلامية والجهاز القضائي، وأنه تمكن بفضل هذه الأدوات من قمع معارضيه، وفرض هيمنته، ولايهمه بعد ذلك أي حالة تذمر مهما اتسع نطاقها ، حيث إنه ضمن أيضا رضاء دولي غير معلن عن انتهاكاته لحقوق الإنسان، بعد أن قدم نفسه للعواصم الكبرى باعتباره يقود نيابة عنهم معركة مواجهة الإرهاب في مصر والمنطقة.
وإذا تجاوزنا أنصار النظام الذين يرددون هذا الكلام ، بحسبان ذلك أمرا بديهيا منهم، فإن من غير المنطقي ومن غير المقبول أن يردد هذا الكلام أشخاص محسوبون على الثورة ( ثوار سابقون)، ذلك أنه يسحب منهم أي رصيد سابق في النضال والعمل الثوري من ناحية، كما أنه يجافي الواقع من ناحية ثانية وهذا هو الأهم، فالنظام الذي يمتلك بالفعل كل هذه القوة الأمنية والعسكرية الباطشة، لم يستطع أن ينهي المقاومة ضده من مظاهرات واعتصامات إلخ، كما أنه لم يستطع أن يوفر بيئة آمنة لرئيسه ليتنقل بشكل طبيعي، أو حتى ليقيم في مكان معلوم شأن كل الرؤساء بمن فيهم رؤساء العالم الثالث، وهو نظام يشبه أطفال الأنابيب الذين يعيشون في حضانة لفترة طويلة، فإن أخرجتهم منها هلكوا، وهكذا فلو قطعت الدول الممولة للنظام تمويلاتها عنه فإنه سينهار سريعا دون مقاومة، لكن السؤال يبدو منطقيا، وهل سيتركه هولاء الممولون ليسقط أمام أعينهم ويخسروا ما أنفقوه عليه من قبل؟ الإجابة العملية في تقديري أنهم لايريدون له أن يسقط، وسيسعون بالفعل لبذل وسعهم لإنقاذه، لكن ظروفا خارجة عن إرادتهم تحول بينهم وبين ذلك على الوجه الذي كان قائما من قبل، فأسعار النفط وهي المورد الرئيسي لأولئك الممولين تراجعت إلى حدود النصف وهي في طريقها إلى مزيد من التراجع وفق الخبراء، وهو ما سيسبب المزيد من العجوزات المالية في موزانات هذه الدول يدفعها لمزيد من السحب من رصيدها الاحتياطي، ويدفعها لخفض إنفاقها العام على مشروعات التنمية ورفاهية مواطنيها، والحال كذلك فليس من المنطقي أن تفضل هذه الدول شعبا آخر على شعوبها لتمنحه المزيد من المعونات بينما هي تسحب من الاحتياطي، كما أن حرب اليمن وما خلفته من دمار واسع يحتاج إلى عملية إعادة إعمار واسعة تلتزم بها المملكة السعودية بشكل أساسي، وربما بعض حلفائها الخليجيين سيسحب المزيد من المليارات من الاحتياطات السعودية والخليجية، ويمثل عنصرا ضاغطا جديدا يوقف أو على الأقل فيخفض المعونات الممنوحة لنظام
السيسي الذي تزداد كلفة بقائه يوما بعد يوم على كفلائه، وقد وجدنا مظاهر هذا التراجع بتحول السيولة الخليجية القادمة إلى مصر من شكل المنح والقروض إلى شكل الاستثمارات مع تراجع قيمتها أيضا، ولم يقتصر الأمر على المملكة السعودية، بل تعداه إلى دولة الإمارات التي تظهر إشارات متزايدة لتراجع دعمها المالي للسيسي (مضطرة تحت وطأة تراجع العوائد النفطية)، وقد رأينا خلال الأيام الماضية انسحاب الإمارات من العديد من المشروعات التي وعدت بإقامتها في مصر بدعاوى مختلفة.
الوضع الاقتصادي لمصر خلال عامين من عمر الانقلاب وصل إلى منحدر لم يبلغه من قبل، فسعر صرف الدولار بلغ الثمانية جنيهات، ومعدل التضخم لامس الـ20%، والأسعار تشتعل لتلهب ظهور المواطنين دون قدرة على الشراء، والدين العام الذي يطوق أعناق المصريين يبلغ وفقا لتقديرات السلطة ذاتها 2.6 ترليون جنيه وهو ما يمثل 90% من الناتج المحلي متجاوزا نسبة الأمان الطبيعية (60%)، كما يتوقع اقتصاديون أن يبلغ عجز الموازنة 286 مليار حنيه لعام 2014 -2015 ، وذلك رغم التدفقات الملياراية الخليجية على النظام خلال العامين الماضيين، ومع ذلك فإن هذا النظام الذي يمر بهذه الحالة الاقتصادية المزرية يضع المزيد من الأعباء الاقتصادية على الشعب عبر رفع الأسعار ورفع الدعم من ناحية، وزيادة رواتب الجيش والشرطة والقضاة ما يضع أعباء إضافية على الميزانية من ناحية ثانية، والأهم من كل ذلك هو تكبيله للشعب بالمزيد من الديون في صفقات خارجية غير ضرورية بالأساس للاقتصاد أو الأمن المصري، وكل هدفها هو شراء مواقف داعمة من تلك الدول لرئيس افتقد الشرعية عبرصناديق الأصوات، فراح يلتمسها عبر صناديق الأموال ولايهمه أن تمثل هذه المليارات (ثمن الصفقات غير الضرورية) عبئا على الاقتصاد الوطني أو على عموم المصريين.
ليس العامل الاقتصادي وحده هو الضاغط على النظام، بل إن عودة حركة الاحتجاجات المعيشية التي كان أبرزها تلك المظاهرة غير المتوقعة حجما ضد قانون الخدمة المدنية، والتي ستتجدد خلال الأيام المقبلة وحتى مظاهرات رجال الشرطة احتجاجا على تمييز رجال القوات المسلحة ماليا عنهم، هي مؤشرات على تآكل هيبة النظام، وقد تدفع حادثة بسيطة لكنها ذات دلالة مثل واقعة اعتداء رجال شرطة على مواطن في محطة المترو إلى تحركات شعبية غاضبة غير متوقعة، وعلى الصعيد الخارجي فإن المظاهرات التي خرجت في لبنان ومن قبلها تلك المظاهرات المعيشية الممتدة في العراق، التي أجبرت حكومة العبادي على التحرك سريعا لإرضاء المتظاهرين هي إرهاصات بعودة روح التمرد في المنطقة مجدا، ما يعني أن جذوة الثورات العربية وفي القلب منها مصر لم تنطفئ بعد، وإذا كان البعض يتندرون على مقولة" الانقلاب يترنح" وقد يكونون محقين في تندرهم، لكن من المؤكد أيضا أن الانقلاب لم يستطع تحقيق الاستقرار والأمن لنفسه حتى اللحظة، وسيظل لاهثا بحثا عن شرعية مفقودة، وخوفا من انفجار بركان غضب غير متوقع.