من خلال المتابعة الدقيقة للوضع الدولي، والإقليمي، ومن خلال معايشة الحال داخليا، أستطيع أن أجزم بأننا أمام صيف
مصري ساخن.
نحن أمام سلطة عسكرية تصدرت المشهد منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، وكان من أكبر أخطاء تلك السلطة أنها حملت الجيش فوق طاقته، فأصبح الجيش مسؤولا عن سائر الملفات، وأصبح – بالتالي – يتحمل عاقبة الفشل في كل المجالات، بداية من الطرق والكباري، ووصولا إلى الانتهاكات الدستورية والمذابح الجماعية، مرورا بأزمات انقطاع الكهرباء، وكوارث القطارات وغرق الصنادل في المحملة بالفوسفات في النيل.
لقد قلنا منذ البداية ارحموا القوات المسلحة، وأخرجوها من لعبة السياسة، ولكن شاء
العسكر عكس ذلك، وما شاء العسكر كان، واليوم ... نجد صوت المعركة داخل معسكر السلطة قد خرج للعلن، فترى غبار المعركة في شكل انتقادات لقائد الانقلاب، أو في شكل أجنحة تتصارع بالضرب تحت الحزام، مثل فتح ملف انتهاكات وزارة الداخلية، أو تجد ترتيبات تتعلق بما بعد سقوط السيد عبدالفتاح "سيسي"، مثل محاولة اختراع حركات شبابية ثورية لتكون جاهزة في مشهد التغيير المنتظر.
سلطة
الانقلاب العسكري في ورطة، فهي تحاول بكل الطرق أن تنجز "مصالحة" بأي شكل لتصل إلى أي استقرار يحقق لها قدرة على استئناف المشاريع الحياتية الاقتصادية، ولكنها فشلت في أقناع الفصيل الرئيسي بالمصالحة وفق المفهوم العسكري (المصالحة عند العسكر أن تنبطح تحت البيادة وأن ترضى بأن تعيش عبدا لكل صاحب رتبة عسكرية، وأن تنسى أي انتهاكات تتعلق بالدماء أو الأعراض أو الأموال أو السمعة).
وحين فشلوا في ذلك حاولوا أن يغروا بعضا من هذه الجماعة بالخروج عنها، بحيث يتم تأسيس جماعة جديدة تحت إشراف الأمن، على رأسها أي شخص من قيادات هذا الفصيل، ويتم إخضاع هذا الشخص بوسائلهم الأمنية الحقيرة التي نعرفها، ولكنهم لم يجدوا من يخضع لهم، على الأقل حتى الآن.
محاولات المصالحة (التمثيلية) ما زالت مستمرة، ولن ينتج عنها في النهاية سوى مسرحية سخيفة لن يصدقها أحد !
على الصعيد الداخلي أيضا ما زالت هناك حركة في الشارع تمنع النظام من الاستقرار، وتمنع من اغتصب السلطة من الاستمتاع بها، وتنغص عليه ليله ونهاره بإجراءات أمنية تحول من يعيش فيها إلى شخص مطارد مطلوب.
حراك الشارع يحاول أن يطور حركته بطريقتين، الطريقة الأولى : الالتحام بالناس وهمومهم (خصوصا مع ازدياد هموم الناس بسبب قرارات أهل الحكم).
والطريقة الثانية : بإنهاك وأجهاد أجهزة الأمن.
ويبدو أن ترشيد حراك الشارع الذي تحدث عنه كثيرون (منهم كاتب هذه السطور) قد أصبح في طريقه للتحقق، ويبدو أن حركة الشارع على وشك الوصول إلى معادلة إرهاق أجهزة الأمن دون رفع التكلفة على المعارضين.
أجهزة الأمن مرهقة بأشياء كثيرة، منها الانهماك في إدارة سجون وأماكن احتجاز ومعتقلات يعيش فيها عشرات الآلاف من المعتقلين.
ومنها متابعة الحركة في الشارع، ومتابعة الحراك الإلكتروني، وتأمين المرافق، وتأمين الشخصيات الهامة ... الخ.
ونتج عن ذلك أن أمن غالبية المواطنين أصبح مكشوفا تماما، فلا يوجد وقت أو جهد عند أي مؤسسة أمنية ينفق في حماية الناس، أوفي محاولة إنصافهم، بل تحولت الأجهزة إلى وكيل للعصابات، فأصبحت تدير الجريمة علنا، بعد أن كانت تديرها في الخفاء، والأمر أوضح من أن يوضح !
على المستوى الإقليمي تفككت غالبية تحالفات النظام الانقلابي، والدعم المالي في تناقص، وغالبية الداعمين أصبحوا مشغولين بهمومهم الخاصة، وبحروبهم الإقليمية، ولم يعد الملف المصري يمثل الأهمية القصوى الآن، بل تراجعت أهمية ما يجري في مصر، وأصبحت ملفات مثل اليمن، وسوريا، والعراق، وداعش ... تحتل مرتبة متقدمة في سلم الأولويات مقارنة بالملف المصري، وبالتالي ... أصبح الانقلاب العسكري اليوم في ورطة اقتصادية لا مثيل لها، فهو يدير دولة على وشك إعلان الإفلاس (بالمعنى الحرفي للإفلاس) !
حين حاول النظام أن يغير تحالفاته الإقليمية كان الوقت قد تأخر، وعاد كاهن الانقلاب ذون التسعين عاما يحمل مائة خيبة وخيبة من بلاد الفرس، بل لا نبالغ إذا قلنا أنه قد عاد وقفاه (يقمر عيشا) كما يقول المثل المصري، فالفلوس التي مثل الرز لا تبذل دون ثمن إلا في لحظات استثنائية، وقد ذهبت السكرة، وحانت ساعة الحساب.
على المستوى الدولي لا يوجد من يتمسك باستمرار الوضع الحالي في مصر، ولا يوجد أي قوة معتبرة تمانع أو تعترض على تغيير الوضع، بشرط وجود بديل معقول.
هناك من يظن أن الحلفاء الدوليين (أو حتى الإقليميين) يحملون أي "مشاعر خاصة" تجاه القائمين على الوضع حاليا، أو تجاه السيد "سيسي"، وهذا غير صحيح جملة وتفصيلا، بل الحقيقة أن ميزان العلاقة بين الطرفين هو المصالح الاستراتيجية للدول، وهو أمر يمكن أن يتحقق بهؤلاء أو بسواهم، وبالتالي لا معنى للتمسك بهم بأشخاصهم.
إن الأزمات الاقتصادية الداخلية، وحالة النضج التي وصل لها حراك الشارع، والوضع الإقليمي المشغول عن مصر، والوضع الدولي الذي ينظر لمصالحه فقط، كل ذلك يؤكد أننا أمام صيف مصري ساخن، بل ربما يكون صيفا ملتهبا، ولو أحسن الثوار إدارة الأمور على الأرض بتوحيد الصفوف فمن الوارد أن نرى لحظة تغيير فاصلة خلال فترة قصيرة.
إن التحدي الآن ليس في موافقة الدول الإقليمية الداعمة للانقلاب على رفع يدها، ولا في تخلي الداعمين الدوليين عن النظام، بل في توحد سائر (أو غالبية) شباب الفصائل الثورية تحت راية واحدة جامعة، ترفعها قيادة شبابية جديرة بالثقة، تقنع المصريين بضرورة الحركة، وتوفر لهم البديل المناسب المتوافق عليه، وتجيب عن أسئلتهم وهواجسهم ومخاوفهم، وتقدم لهم الخطط والرؤى التي تؤكد لهم أنهم سوف يستفيدون من التغيير المقبل تغييراً يلمسونه في حياتهم اليومية، ويستفيد منه الوطن على المدى البعيد، وأن فرصة انقضاض أي أحد على إنجاز البسطاء الذين سينزلون الشارع هذه المرة ... ستكون معدومة.
هذا التحدي ليس صعباً أو مستحيلا كما يتوهم البعض.
إذا حدث ذلك ... فتأكد أن مصر سوف تبدأ مرحلة تحول ديمقراطي سليم، على أساس المشاركة من الجميع، بلا مغالبة من أحد، ودون أن نعطي الفرصة لأي عسكري أن يرفع علينا سلاحه ليقول لنا (للخلف در) !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..