مع تصاعد الخلافات بين قيادات في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن أو حسب توصيف محللين ومراقبين بين جناحين في الجماعة، أصبح للجماعة كيانان قانونيان يحملان الاسم والرسم والمنهج، وإن اختلفا في طريقة التعاطي مع بعض القضايا، ودون الدخول في تفاصيل ما جرى في الأردن والذي لايزال في مرحلة الشد والجذب والحلول والتسويات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هل تلحق الجماعة الأم في مصر بأحد فروعها ( الأردن) ليصبح لها كيانان أو أكثر؟
السؤال يبدو منطقيا ووجيها في ضوء الضغوط غير المسبوقة التي تتعرض لها الجماعة الأم والتي دفعت فيها الجماعة دماء الآلاف من أبنائها بين شهيد وجريح، والآلاف من المسجونين والمشردين والمفصولين، والمطاردين، مع مصادرة أموال وجمعيات ومدارس ومستشفيات، وحرق منازل ومصانع وعيادات إلخ، وقد نسمع قريبا عن توقيع عقوبات إعدام بحق عدد من قياداتها ( بعد إعدام محمود رمضان) مع استمرار المظاهرات المناوئة للانقلاب العسكري، ومع عجز سلطة الانقلاب عن لجم تحركات الجماعة وأنصارها.
وقبل الولوج إلى دهاليز الجماعة الأم ومحاولات اختراقها وتقسيمها من الجدير بالذكر أن معظم فروع الجماعة تعرضت لانقسامات، استمر بعضها، والتأم البعض الآخر.
واللافت أن
الانشقاقات تحدث في حالي الضراء، أي حين تتعرض الجماعة لضغوط سلطوية عاتية تدفع بعض أبنائها لمحاولة التكيف والنجاة بأنفسهم أو بجماعتهم ( بافتراض حسن النوايا) أو بدافع إغرائي من السلطة للفوز ببعض الأنفال، أو في السراء حال وصول الجماعة أو مشاركتها في السلطة حين يختلف النص( المبادئ والإيديولوجيا) مع الواقع الذي هو السياسة بمناوراتها ومواءماتها وتحالفاتها (فن الممكن) إلخ.
وهو ما يتضح من تنوع حالات الانشقاق في فروع الجماعة في الأمصار المختلفة، فقد تعرض الإخوان في سوريا للانقسام مرات منذ أواخر السبعينات، ومرورا بأزمة حماة مطلع الثمانيات ووصولا إلى الانتخابات الداخلة للجماعة في 2011 التي دفعت فريقا من أبناء الجماعة إلى العمل بشكل مستقل، ولكن الأمر لم يلبث كثيرا حيث تمت معالجته في مارس 2012 وعاد المبتعدون إلى الجماعة.
وقد تكرر الانشقاق في الجماعة الإسلامية في لبنان المجاورة وخرج فتحي يكن أحد منظري الإخوان في العالم ليؤسس حزبا خاصا به هو حزب جبهة العمل الإسلامي( عام 2006) وأصبح منافسا للجماعة وحليفا لخصومها وأبرزهم حزب الله حتى وفاته.
الأمر تكرر أيضا في المغرب العربي ففي تونس انشق البعض عن حركة النهضة في سبعينات القرن الماضي حين كانت تسمى بـ "الجماعة الإسلامية" وكان الانشقاق الأول لـ أحميدة النيفر ومجموعة أخرى (أسسوا تيار الإسلاميين التقدميين) وكان الانشقاق الأبرز الثاني للشيخ عبد الفتاح مورو (الرجل الثاني والمؤسس مع الغنوشي) الذي ترك الحركة مطلع التسعينات ثم عاد إليها في انتخابات 2012 ليصبح نائبا أول للحركة وللبرلمان لاحقا.
ومن بعده انفصال حمادي الجبالي الأمين العام للحركة ورئيس الحكومة التونسية في 12 ديسمبر 2014 على خلفية الموقف من الانتخابات الرئاسية التي ترشح لها المنصف المرزوقي الرئيس السابق في مواجهة قائد السبسي الرئيس الحالي.
كما طالت الانشقاقات إخوان الجزائر ( حركة حمس) بعد وفاة مؤسسها الشيخ محفوظ نحناح، إذا أصبح هناك كيانان أيضا أحدهما يرأسه عبد المجيد مناصرة والآخر يرأسه أبو جرة سلطاني، وإزاء صعوبة محاولات التوفيق التي قام بها التنظيم الدولي ( إبريل 2009) فإنه اضطر لنزع اعترافه بكلتا المجموعتين، وظلت الجزائر مجمدة في هذا التنظيم وهو ما قد يتكرر مع الأردن، ومن المشرق والمغرب العربي إلى الجنوب حيث شهد السودان انشطار جماعة الإخوان إلى عدة فرق، وكان الانشقاق الكبير عام 1980.
لكن الغريب في السودان أن الفئة الأكبر من التنظيم في ذلك الانشقاق انحازت للدكتور الترابي وبقى نفر قليل ضمن التنظيم الدولي للإخوان يتزعمهم الصادق عبد الماجد والحبر نو الدايم ولاحقا عصام البشير -قبل ان يغادر هو أيضا، وأصبح في السودان عدة كيانات تنسب نفسها للإخوان بدءا من حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور الترابي، مرورا بالمؤتمر الوطني الذي انشق على الترابي (الحزب الحاكم وعلى رأسه الرئيس عمر البشير والذي صرح مؤخرا بأنه لا يرتبط بالتنظيم الدولي للإخوان) ومرورا أيضا بحركة الإصلاح التي انشقت على المؤتمر الوطني ويتزعمها غازي صلاح الدين، وحتى قطاع من متمردي دارفور بقيادة خليل إبراهيم، وانتهاء بالمجموعة التي لاتزال ترتبط رسميا بالتنظيم الدولي وهي مجموعة الدكتور صادق عبد الماجد والحبر نور الدايم.
نعود إلى الحالة المصرية فليس خافيا أن النظم العسكرية المتعاقبة على حكم مصر حاولت كثيرا شق صف الجماعة الأم، بل إن هذه المحاولات سبقت النظم العسكرية، وبدأت في العهد الملكي وخلال وجود مؤسسها الإمام حسن البنا، ولن يكون لقاء المشير عبد الفتاح السيسي قبل أيام مع 3 من المنشقين عن الجماعة آخر هذه المحاولات.
حمل اللقاء الأخير للسيسي مع 3شخصيات بارزة منشقة عن الإخوان هم كمال الهلباوي ومختار نوح وثروت الخرباوي يوم 26 فبراير 2015 دلالات مهمة لجهة طريقة تعاطي السلطة الحالية مع الجماعة التي تمكنت من لملمة جراحها سريعا، واستطاعت أن تعيد تنظيم صفوفها وتجري انتخابات تنظيمية بدءا من المستويات القاعدية وحتى قمة الهرم الإداري جدد دماءها، وقدم قيادات شابة للعمل الميداني استطاعت هذه الأخيرة أن تحدث نقلات نوعية في الحراك الثوري بدا واضحا في فعاليات الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير.
وهي الفعاليات التي أعادت لفت أنظار القوى الدولية والإقليمية الكبرى للجماعة مجددا بعد ان ظنت أنها قد انتهت أو كادت، ومن هنا فتحت الخارجية الأمريكية بمشاركة البيت البيض مكاتبها لاستقبال وفد المجلس الثوري وبرلمان المنفى الذي ضم رموزا إخوانية بارزة، وهو ما فتح الطريق لمزيد من اللقاءات مع إدارات دول أوربية أخرى.
كما أن السعودية بعد وفاة الملك عبد الله بدت أكثر مرونة في التعاطي مع الملف الإخواني بانتظار تحديد سياسة جديدة ( مختلفة) للتعامل المستقبلي مع الجماعة التي يمكن أن تكون شريكا جيدا للملكة في مواجهة المد الإيراني وحتى الداعشي، ومع انفتاح هذه الأبواب واصل الباب العالي في تركيا دعمه المعنوي للجماعة التي يحتضن قيادتها وحلفائها في الخارج، وفي ظل هذه الوضعية الإخوانية كان حرص السيسي على الاجتماع مع الثلاثي (الهلباوي ونوح والخرباوي) في محاولة منه لصنع قيادة أو حتى جماعة جديدة مناوئة وإن لم تأخذ الاسم.
لكنها يمكن أن تكون شوكة في خاصرة الجماعة الأم، كما يمكنها أن توفر ملاذا آمنا لمن تتمكن أجهزة الأمن من إقناعه أو إجباره على ترك الجماعة طلبا لحريته وانعتاقه من الحبس والملاحقة مثلا ( أسس ها الثلاثي كيان باسم مصر رائدة التنوير)، ولكن هذا الكيان لا يدعي انتسابا للإخوان بل الأصح انه سيتولى "تفكيك التنظيم" وصرف الشباب المنتمين له، ترغيبا وترهيبا، حسبما صرح أحد أعضاء الجمعية ( سامح عيد) في تصريحات نقلتها اليوم السابع عقب لقاء السيسي.
وقد ظهر المنشقون الثلاثة في عدة برامج تليفزيونية مؤكدين رفضهم التام لفكرة المصالحة بين السلطة وجماعة الإخوان التي وصفوها بـ"الإرهابية" ووعدوا بإقناع المزيد من السجناء بترك الجماعة وتوقيع إقرارات توبة مكتوبة لتسليمها لوزارة الداخلية بهدف إطلاق سراحهم بعد التأكد من صدق توبتهم!
الجماعة الأم في القاهرة تعرضت لعدة انشقاقات من قبل كان أولها عام 1937 بخروج بعض الشخصيات اعتراضا على بعض القرارات والسياسات، ومن ذلك قبول الإمام البنا تبرعا من شركة قناة السويس بمبلغ 500 جنيه لبناء مسجد داخل الشركة.
وتبع ذلك انشقاق أحد القادة وهو المحامي محمد عطية خميس مؤسسا حركة شباب محمد سنة 1940 ، ثم تبعه فصل وكيل الجماعة وأحد مؤسسيها أحمد السكري سنة 1947 الذي أسس جمعية الإخوان المجاهدين الأحرار، واتخذ لها مقرا في ميدان الخديوي إسماعيل، لكنها لم تدم كثيرا، فانضم بعدها لجماعة مصر الفتاة بعد "يأسه من تأييد حزب الوفد".
ثم كانت أزمة عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز الخاص خلال قيادة المستشار حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان المسلمين، عندما قرر إعادة النظر في النظام الخاص، وإعفاء السندي من مهمة قيادته، موكلا إياها إلى أحمد حسنين، لكن السندي أعلن تمرده على الهضيبي، وقام مع بعض أنصاره باحتلال المركز العام للجماعة، ومحاولة اقتحام بيت الهضيبي، ما دفع مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية إلى اتخاذ قرار بفصله وبعض من معه.
وفي تلك الفترة ذاتها تم فصل قامات كبرى مثل الشيخ الباقوري والشيخ محمد الغزالي الذي انتقد الهضيبي بشده قبل ان يعتذر لاحقا عن تلك الانتقادات.
وكان الإنشاق الأبرز خلال العقدين الماضيين هو مجموعة حزب الوسط بقيادة المهندس أبو العلا ماضي عام 1996، حيث تقدم ماضي للجنة الأحزاب بطلب لتأسيس حزب على غير موافقة واضحة من الجماعة التي حاولت ثنيه ورفاقه عن هذا الطلب، وحين عجزت عن ذلك قامت بفصلهم جميعا، اللافت أن أبرز المنشقين الجدد كان يتزعم الحملة ضد الوسط وهو مختار نوح الذي طارد ماضي في ساحات المحاكم، وطارد الأعضاء المؤسسين طالبا منهم سحب لتوكيلاتهم لماضي.
وبعد سنوات من النقاش الساخن بين الوسط والإخوان، ها نحن نرى الحزب من أقرب الشركاء للجماعة وخاصة في مرحلة ما بعد ثورة يناير وحكم الرئيس مرسي، وحتى الآن حيث يقبع ماضي ونائبه عصام سلطان في السجن إلى جوار مرشد الإخوان ونوابه.
ثم كان الانشقاق التالي لعبد المنعم أبو الفتوح الذي لم يفز في انتخابات مكتب الإرشاد عام 2009، وتم فصله من الجماعة لاحقا بسبب انتقاداته لقياداتها، وقد ترشح لرئاسة الجمهورية منافسا لمرشح الجماعة الدكتور محمد مرسي ثم أسس حزب مصر القوية لاحقا، وقد تبعه في الخروج من الجماعة النائب الأول للمرشد الدكتور محمد حبيب للسبب ذاته وهو خروجه من مكتب الإرشاد في انتخابات 2009، لكنه ظل داخل الجماعة عضوا بمجلس الشورى حتى استقال منه عقب ثورة يناير منقلبا بالكامل على الجماعة وسياساتها، ومؤسسا لحزب النهضة الذي لم يستطع إشهاره رسميا لعدم قدرته على جمع التوكيلات القانونية المطلوبة.
مع تعدد وتنوع حالات الانشقاق التي تعرض لها التنظيم الأم بات من الواضح أنها أكسبته مناعة "تنظيمية" مكنته من مواجهة تلك المحاولات والخروج منها منتصرا أو بأقل الخسائر حتى إن المرشد الأسبق مصطفي مشهور كان يفخر دائما بأن الجماعة ستظل باقية حتى لو سقطت بعض فروعها، فهذه الفروع التي تنفصل عن الشجرة تزبل مع الزمن وتبقى الشجرة حسب تعبيره.