بات من الواضح، أن عبد الفتاح
السيسي اعتبر، وهو يعاني من فقد الحماس له داخلياً، وإقليمياً، ودولياً، مقتل واحد وعشرين قبطياً في
ليبيا، رمية بغير رام، ليقدم نفسه للداخل، بأنه يخوض حرباً مقدسة، وقد جرى استغلال الحروب في السابق، للاصطفاف الوطني، حول الزعيم الملهم، ولتكميم الأفواه تحت لافتة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، مع أن نتائج المعارك كانت هزائم هنا وهناك!
الكتلة الحرجة، كما وصفها كتاب مقربون من السيسي تململت، حتى سمعنا من إعلاميين موالين للانقلاب العسكري، وقد ربطوا مصيرهم بمصيره وجوداً وعدماً، ينتقدونه.
ودوائر الانقلاب الإقليمية جاءها ما يشغلها، فقد استيقظ الخليج، ليجد أعداءه على مرمي حجر منه، وقد ساعد بعضهم في ذلك لإفساد اليمن بعد ثورته، ليصبح هو نفسه محاصراً بالخطر الشيعي، الأكثر ضرراً من مجرد هواجس من خوف انتقال الربيع العربي إليه، ومن كراهية الإخوان.
وبسبب التغييرات الأخيرة في السعودية فلم تعد هذه الدوائر مشغولة باستمرار السيسي، أو بتقديم المساعدات له من لحم الحي، وقد كشفت التسريبات أنها لم تصل أبداً للشعب المصري على نحو يجعله يتقبل هذا الانقلاب ويتعايش معه!.
هذا فضلاً عن أن دوائر الانقلاب الخارجية، لم يعد لديها الحماس لرجل فشل على كافة الأصعدة، ولم ينجح في تحويل مصر لبلد مستقر، وإذا كان الانحياز له بسبب الدفاع عن المصالح وهي اللغة المعتمدة سياسياً، فعندما تتحول مصر لدولة فوضى، فإن المصالح الأمريكية والإسرائيلية بالذات ستكون في خطر.
وعليه، فقد انتهز عبد الفتاح السيسي فرصة مقتل واحد عشرين مصرياً على يد الجماعات الإرهابية، ليكلف وزير خارجيته بالسفر لنيويورك، لدفع مجلس الأمن لاتخاذ قرار بالتدخل في ليبيا، بما من شأنه أن يعيد الحماس الغربي له من جديد، والرجل قد ضاقت فرص المناورة أمامه ولم يعد يجد ما يصلح لأن يعرف به نفسه، غير أنه يواجه الإرهاب!.
وإذا كان عبد الفتاح السيسي لم يجد بالداخل من هم متحمسون له، فليقدم نفسه للكتلة الصلبة في الانقلاب، ممثلة في الكنيسة الأرثوذكسية وأتباعها، أنه لا يزال أفضل البدائل. فها هي الفرصة قد جاءته على طبق من ذهب، ليداعب خيال هؤلاء بإصدار أوامر بالقصف الدولي على ما قيل إنه أهداف لتنظيم "داعش"، ليفقدوا بذلك الأمل تماماً في عودة جثامين القتلى وهو المطلب الوحيد عندما تأكد للكنيسة ولأهالي الضحايا أنهم قتلوا بالفعل!.
وقد جاء خطاب عبد الفتاح السيسي ليقفز على الاتهام الموجه لسلطته بالتقصير في مواجهة عملية خطف هؤلاء، إذ قال الأهالي إنهم أبلغوا السلطات بالاختطاف المحتمل قبل وقوعه منذ ثلاثة شهور فلم تحرك ساكناً، وعندما وقع كان الأداء الحكومي كاشفاً عن غرق سلطة الانقلاب في شبر ماء، فقد تم تشكيل خلية في وزارة الخارجية، وأعلن عبد الفتاح السيسي أنه يتابع الوضع بنفسه، وقال وزير خارجيته إن الوزارة تتابع الأمر عن كثب، دون أن نعلم ماذا أنتجت المتابعة بالنفس وعن قرب!.
ولم يعد مقبولاً في هذه الأجواء الحزينة أن نطلب بمحاكمة هذه السلطة الفاشلة والعاجزة، على تقصيرها وعدم مبالاتها بأرواح المصريين في ليبيا، وهي ليست مشغولة سوى بتوظيف الجريمة سياسياً، للإمساك بشرعية مراوغة والحصول على تأييد لحظي، في ظل حكم هو عنوان العجز واللامبالاة!.
لا يملك أحد حق المزايدة علينا هنا، فهؤلاء الضحايا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هم منا نحن، وهم يشبهوننا، ولا يشبهون عبد الفتاح السيسي والذين معه من النشطاء الأقباط، الذين رقصوا على أنغام تنظيم داعش، الذي حرص على أن يكون هؤلاء من الأقباط، فكشفوا الأجواء الطائفية التي تعيش فيها البلاد، بسبب هذا الانقلاب. وعليه فقد شاهدت عدداً من هؤلاء النشطاء في برامج تلفزيونية، يستغلون عملية الاختطاف في التأكيد على انحيازهم كمسيحيين لعبد الفتاح السيسي، ووظفوا ما جرى ليقدموا له "عربون محبة" بحثاً عن منافع شخصية، ولو باستفزاز الخاطفين، بالتأكيد على أنهم وقعوا على كنز، بدلاً من تحويلها لقضية وطنية بغض النظر عن ديانة المخطوفين!.
الذين باعوا دماء المسيحيين، في مذبحة ماسبيرو، بوقوفهم بعد ذلك مع الجناة، لديهم استعداد لبيع هؤلاء البسطاء الواحد والعشرين، من أجل استغلال اللحظة لتحقيق مكاسب سياسية لأنفسهم!.
ولم يقتصر سوء التصرف على هؤلاء، إنما كان عبد الفتاح السيسي وفي سبيل استمرار تأييد الكتلة الصلبة له غير مبال بمعنى "الدولة"، فقد كان حريصاً كل الحرص على الاتصال بالبابا، ليؤكد له أنه يقوم بدوره في متابعة الأمر بنفسه، وكأن البابا هو رئيس دولة من دول الجوار، وباعتبار أن "دولة الكنيسة" هي من تمثل الأقباط وليس "الدولة المصرية"، فرقص بذلك على أنغام "داعش"!.
لقد أحسن أهالي المخطوفين التصرف عندما جاءوا من قراهم في مركز سمالوط بمحافظة المنيا، ليتظاهروا على سلالم نقابة الصحفيين، التي وسعت النضال الوطني العام، ولا نعرف من الذي أوعز إليهم استغلالاً لبساطتهم بأن يغادروا المكان إلى الكاتدرائية بالعباسية ليعتصموا هناك، لتوظف الكنيسة القضية لصالحها سياسياً، ولو كان الثمن أرواح هؤلاء، ورقصاً على أنغام "داعش"!.
ومن جانبها، فقد حرصت حكومة الانقلاب، بدءًا من رئيسها إبراهيم محلب إلى وزير أوقافها، على التعامل مع القضية طائفياً، فتنتقل للكاتدرائية لتؤكد الولاء لدولة الكنيسة، وكأننا أمام قضية طائفية فعلاً، رقصاً أيضاً على أنغام "داعش"!
واللافت، أن الأزمة في تجلياتها كانت بسبب حرص النظام السياسي في عهد مبارك، على التعامل مع الكنيسة على أنها دولة، وأنها الممثل السياسي للأقباط، وقد ضج العقلاء منهم بهذه السياسة وكتب جمال أسعد عبد الملاك كتابه "من يمثل الأقباط: الكنيسة أم الدولة"؟!.
فتنظيم الدولة "داعش"، عندما اختطف هؤلاء المصريين الذين يعملون في ليبيا، لم يكن يرقص على أنغام "الشرعية"، أو رداً على موقف البابا تواضروس وكنيسته في الانحياز للعسكر ضد إرادة المصريين، لأنه لا يؤمن فكراً بإرادة الشعوب، وهو معاد للديمقراطية واختيار الصندوق، فقد طالب بأن تخلي الكنيسة سبيل "وفاء قسطنطين" و"كاميليا شحاتة"، وهي قضية لم تشغل بال كل مكونات الدائرة الموالية للشرعية في يوم من الأيام، حتى وهي في الحكم. والتيار الوحيد الذي شغلته هذه القضية بعد ثورة يناير تخلى عنها سريعاً.
"وفاء" و"كاميليا"، زوجتان لقسيسين، أحدهما من البحيرة، والثاني من المنيا، وقد دخلن في الإسلام وهربن من بيوتهن، مع خلاف هنا، فالأولى تمكنت من الانتهاء من الأوراق الرسمية التي تثبت إسلامها، في حين أن الثانية اختطفت وهي في خطواتها نحو ذلك، ومن قام بخطفهن كان هو نظام مبارك، وقام بتسليمهن للكنيسة، لتقوم باحتجازهن في أحد الأديرة!.
مما أعلنته قيادات كنسية، فإنه تم إقناعهن وعدن للمسيحية من جديد، لتبدو الأزمة هنا عن المسوغ القانوني لعملية الاختطاف، والتسليم، والحبس، وما هي السلطة السياسية للكنيسة لتقوم بهذا الاحتجاز القسري، في دولة مدنية؟!.
أحدثت القضية أزمة في حدودها الدنيا في عهد مبارك، لكن بعد قيام الثورة، وشعور بعض السلفيين بأنهم صاروا أحراراً، دفعهم ذلك للتجمع في مسجد "النور" بالعباسية والقيام بمسيرة انتهت بحصار الكاتدرائية، لحملها على الإفراج عن "كاميليا" و"وفاء". وكان هؤلاء من التيار السلفي التقليدي، ولم يتجاوب معهم التيار الإسلامي العام، ولم يشغل هذا الأمر الإخوان المسلمين في أي مرحلة من المراحل، الذين سعوا في حكمهم للتودد لرأس الكنيسة ومعاملته كما كان مبارك يعامله، على أساس أنه في أقل تقدير رئيس الحزب المسيحي المصري، الذي يطلب منه الرئيس اختيار من سيتم تعيينهم من المسيحيين في مجلس الشورى والهيئات الأخرى؛ مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة. وبعض من اختارتهم الكنيسة للتعيين كانوا من الفلول الذين ينتمون لنظام مبارك!.
قد يسأل سائل: وماذا كان يمكن للسيسي أن يفعل للحفاظ على أرواح المخطوفين؟!
وجوابي: كانت هناك تجربة سابقة في عهد الرئيس محمد مرسي عندما تم اختطاف مصريين في ليبيا، وقد عادوا للوطن، وكان على السيسي أن يذهب للرئيس في مقر اختطافه ليسأله النصيحة، فمؤكد أن السيسي أستاذه المعلم هو حسني مبارك، والتجربة الدرس عنده تتمثل في اختطاف القراصنة الصوماليين لعدد من الصيادين المصريين، وهي غير قابلة للتعميم، إذ كان القراصنة قد طلبوا فدية، ولأن المخلوع لم يكن لديه استعداد للدفع فقد كان الرد أنه لن نسمح لأحد بأن يقوم بليّ ذراعنا.. وفي النهاية يئس القراصنة من المهمة فأخلوا سراحهم. فهل كان السيسي ينتظر نهاية كهذه؟!
لقد قال هو إنه يتابع الموضوع بنفسه، وقال وزير خارجيته إن وزارته تتابع الموضوع عن كثب، وعلى سلطة الحكم أن تعلن نتيجة المتابعة والاتصالات، اللهم إلا إذا كانت المتابعة من خلال ما تنشره الصحف وتبثه وسائل الإعلام!.
الدول الحية، لديها قنوات اتصال بأعدائها، وهذا جزء من حيوية الدول، لكن تكمن المشكلة في أن الانقلاب صار جزءاً من الأزمة الليبية، بمساعدته لأحد الأطراف ولم يشغله حتى بعد إعلان مقتل المخطوفين شيء، أكثر من الاستغلال السياسي للجريمة!.
فقد أعلن الحرب على الخاطفين، فكان أن فقد ذووهم الأمل في عودة الجثامين، وتم قصف ما قيل إنه أهداف للتنظيم قبل إعادة أكثر من مليون مصري يعملون في ليبيا، مما يؤكد أن في يد التنظيم مليون رهينة، لا أظن أنهم يقعون في دائرة اهتمام عبد الفتاح السيسي، المشغول باستمراره رئيسا ولو على أشلاء المصريين جميعاً.
"داعش" تجر السيسي الآن للحرب المفتوحة في ليبيا، والسيسي المأزوم سيستجيب، بحثاً عما يجعله مستمراً في الحكم، لكن الأمر لن يكون أكثر من أثر أنبوبة أكسجين قد تحافظ على الحياة لساعة أو بعض ساعة!.
تجربة عبد الناصر في اليمن تتكرر، لكن السيسي ليس هو عبد الناصر، والهزيمة تعني النهاية.
[email protected]