في 29 ديسمبر الماضي، أجرت إذاعة (NPR) مقابلة مع الرئيس الأمريكي باراك
أوباما حول عدد من القضايا الساخنة، من بينها الملف
الإيراني، وحملت الأجوبة التي قالها الرئيس الأمريكي نبرة تصالحية مع إيران لم يسبقه إليها أي رئيس أمريكي على الإطلاق منذ العام 1979، لدرجة أنّ الكثيرين وصوفها بالتصريحات التي تنم عن سذاجة موصوفة.
ركّز أوباما في أجوبته على ثلاث نقاط أساسية أثارت الكثير من الجدل، الأولى لمّح من خلالها بشكل مباشر إلى إمكانية أن تفتح واشنطن سفارة في طهران، عندما قال في جواب على سؤال حول إمكانية أن يحصل مثل هذا الأمر: "أنا لا أقول لا أبداً، ولكني أعتقد أنّ مثل هذه الأمور تجري على مراحل".
أما النقطة الثانية، فتتعلق ببرنامج إيران
النووي ووسلوكها: "قلنا للإيرانيين إننا مستعدون للاعتراف بقدرتكم على تطوير برنامج معتدل للطاقة النووية لتلبية حاجاتكم من الطاقة. الإيرانيون لديهم مخاوف دفاعيّة مشروعة، لكن عليهم أن يفصلوا ذلك عن مغامراتهم ودعمهم لجماعات مثل حزب الله وتهديداتهم لإسرائيل".
أمّا النقطة الثالثة، فتتعلق بدور إيران الإقليمي مستقبلاً: "لديهم الفرصة لأن يكسروا عزلتهم، ويجب أن يستغلوا هذه الفرصة، لأنّهم إذا فعلوا، وهم فائقو الذكاء ويمتلكون الموارد والتعقيد، سيصبحون قوة إقليمية ناجحة جداً، لاسيما مع الخضوع للقواعد والنظم الدولية".
ماذا نفهم من ذلك؟ من الواضح أنّ أوباما يحاول تقديم الجزر دون أن يكون هناك أي عصي، فهو مستعد للتطبيع الدبلوماسي التدريجي وصولاً إلى التبادل الديبلوماسي، وهو مستعد للاعتراف ببرنامج نووي إيراني وشرعنته، كما أنّه مستعد للاعتراف بدور إقليمي لإيران، وربما إعطائها القيادة أيضاً معطوفة على المديح!
المشكلة أنّ ايران هذه نفسها مصنّفة وفق التقارير الأمريكية عام 2013، بأنّها أكبر داعم للإرهاب، ليس في المنطقة وإنما في العالم.
يقول التقرير الذي أعدته الخارجية الأمريكية للكونغرس عن "حالة الإرهاب العالمي"، إنّ دعم إيران للإرهاب العابر للحدود شهد في العام 2012 قفزة نوعية عبر الحرس الثوري وفيلق القدس، والاستخبارات الإيرانية وحزب الله، ووصل إلى مستويات لم يسبق لها مثيل خلال 20 عاماً.
ما الذي تغيّر اليوم؟ ما تغيّر هو السلوك الأمريكي، لم يتغير شيء في الجانب الآخر. أوباما يتحدّث اليوم عن "مخاوف إيرانية مشروعة"! في وقت تحتل فيه طهران باعتراف مسؤوليها أربع عواصم عربية حتى الآن.
سلوك إيران كما هو وسياساتها كما هي، وإرهابها كما هو، لا بل إنّ سياسة أوباما التصالحيّة هذه مع إيران أدت إلى ازدياد نفوذ النظام الإيراني، وازدياد عدد ميليشياته أو ما نستطيع أن نسميه جيوش آية الله في العالم العربي.
وإذا كانت إدارة الرئيس بوش الابن قد سلّمت العراق لإيران على طبق من ذهب خطأً، وبطريقة غير مقصودة، فإن إدارة أوباما تقوم بتسليمها المنطقة عن وعي كما هو واضح.
لم يعد هناك شيء يوقف هذه الإدارة عند حدّها، فقد تجاوزت كل ما هو غير متصوّر.
في البداية أنكرت إدارة أوباما أن يكون هناك تعاون مع إيران ضد "داعش"، ثمّ عندما بدأت الأدلة بالظهور تم الحديث عن تقاطع مصالح وتنسيق غير مباشر، ثم انتقلنا بعدها إلى ما أسمته "واشنطن بوست" في مقال لها في 2 يناير الحالي بأنّه تحالف أمريكي - إيراني.
وقد ذكر المقال أنّ مسؤولين من إدارة الرئيس أوباما يعملون بشكل حثيث خلال هذه المرحلة على طمأنة إيران بأنّ الوجود الأمريكي الجديد مؤقت، وليس دائماً.
اليوم يتحدث أوباما عن "مخاوف إيرانية مشروعة"، ربما اعتقد أنّ الصفقة التي أتت بالمالكي لم تكن كافية لتطمئن الإيرانيين، وأنّ السكوت على جرائم الأسد وإبقائه وغض النظر عن سياسات المالكي وعن تدفق الميليشيات الشيعية إلى سوريا لم يكن بدوره كافياً أيضاً، وأنّ الانخراط مع طهران في مفاوضات نووية تضمنت تنازلات أمريكية تاريخية، والاعتراف بنفوذها في العراق وسوريا ولبنان والسكوت عن إطاحتها للنظام في اليمن، لم يكن كافياً لطمأنة الإيرانيين، لذلك قد قرر أوباما على ما يبدو أن يعمل بشكل مباشر مع الحرس الثوري وميليشياته في المنطقة، علّ هذا يعطي الثقة المطلوبة للجانب الإيراني!
ففي 8 يناير الحالي، نشرت بلومبرغ تقريراً حصرياً نقلت فيه تصريحات مسؤولين رفيعي المستوى في إدارة الرئيس أوباما، قالوا فيها إنّ الإدارة الأمريكية على علم بأنّ الاسلحة الأمريكية تصل في النهاية إلى الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق، وأنّ برنامج الدعم الذي تمّ إقراره مؤخراً في واشنطن بقيمة 1.2 مليار دولار للقوات العراقية سيؤدي إلى وصول أسلحة وعتاد أمريكي إلى هذه الميليشيات، التي تمتلك سجلاً حافلاً في قتل السنّة أو حتى الجنود الأمريكيين.
وإن الإدارة تبرر ذلك بالقول إنه لا خيار ثان أمامها، وأنّ عدم إرسال الأسلحة سيزيد الأمور سوءاً!
إن مثل هذه المعطيات إن كان لها أن تدل على شيء، فهي تدل على عمق الأزمة التي نعاني منها في ظل حالة الشلل الاستراتيجي الموجودة عند من تبقى من الدول العربية الإقليمية الفاعلة، ومدى تجاهل الرئيس أوباما لمخاوفنا المشروعة جداً، ليس من إيران فقط، وإنما من نتائج سياساته التي لن يبقى طويلاً في الحكم ليرى نتائجها المدمرة على المدى المتوسط والبعيد.