في شبرا، ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، يصعب على الناس تخيل ما يرد في نشرة الأخبار من أحداث طائفية هنا أو هناك،
مصر في شبرا شكل آخر، الوحدة الوطنية التي يتغنون بها في الأفلام العربي، ومسلسلات التليفزيون المصري "التعبانة"، نسختها الأصلية هناك، يظهر الفرق بين المسلمين والأقباط هناك في دور العبادة، عندما يتذاكى أحدنا ويأخذ زميلا له إلى المسجد أو العكس، مستغلا براءة الأطفال، تسمع صوت أمه وهي تعنفه أو تضربه لأن المسلمين ضحكوا عليه.
في الأفراح، المواسم، العزاءات ثم العزاءات ثم العزاءات، الجميع هنا معا، عفوا، كانوا معا.
بجوار بيتي في حارة صالح أيوب بشبرا مصر، كنيسة الإيمان الإنجيلية، أصحو كل يوم على أصوات الأجراس، لماذا هذه الكنيسة بالذات، لم أمر بها يوما وأنا صغير إلا توقفت أسترق السمع، أصوات البيانو الساحرة، الترانيم العذبة، لا أفهم شيئا على وجه التحديد، لكنهم فنانون بحق، الله، أصوات تنتزع لفظ الجلالة من قلب مسلم، يقف على باب الكنيسة يتمنى الدخول ولا يجرؤ، لماذا لا يعزفون الموسيقى في المساجد؟؟؟
لا أحب الكنيسة التي تقع على الجانب الآخر من حارتنا، لا أذكر حتى اسمها، حين أمر بجوارها شيئا ما يقبض صدري، لا أعرف لماذا، أحب كنيسة الإيمان، جارتنا، بعد قليل أدرك الفوارق المذهبية بين الأرثوذكس، والكاثوليك، والإنجيليين، وأعرف لماذا انحزت لكنيسة دون أخرى؟
عم مجدي، جارنا الأكثر قربا من البيت ومن القلب، لا يعرف الطفل
محمد طلبة عما في هذا الحي سوى "عم مجدي"، يركب موتوسيكل ويركنه تحت بيتنا، بسببه كرهت كل الدراجات البخارية، ولم أركبها في حياتي، عاد يوما مكسورا، ذهبت لزيارته فوجدته في "الجبس"، وقع من على ظهر الموتوسيكل، اللعنة على الموتسيكلات، يخبرني والدي أنني بت أبكي طوال الليل.
معلمتي الأولى في المرحلة الابتدائية أبلة "روزيتا" كنا نناديها "روز"، أول من خط بيده سورة من القرآن على السبورة، قل هو الله أحد، كان خطها رائعا، سألت أمي يومها، أليست مسيحية؟ لقد كتبت السورة وطلبت منا تسميعها، ابتسمت في هدوء وقالت: السورة في المنهج، وهي مدرسة عربي، لازم تكتبها طبعا.
هذه السيدة العظيمة، أبلة روز، كانت من آخر جيل من المعلمين المصريين يحترم نفسه، ومادته، ورسالته، علمتنا كل شيء، النظافة، قص الأظافر، الإتيكيت، الاهتمام بالمذاكرة، كل شيء، لاحظ: كنت في مدرسة حكومية مصروفاتها لا تتعدى الـ 20 جنيها، أقل من 3 دولارات أمريكية،داخل حارة، متفرعة من حارة، كل شيء منحوت في حوائط الفقر نحتا، إلا معلمة أكثر من عظيمة، ديني، ودنياي يدينان لها بالكثير، عليها السلام.
عم نجيب فراش مدرستنا، هل تعرف معنى أن يقول المصريون فلان رجل طيب، كان عم نجيب رجلا طيبا بمعنى الكلمة، ضحكته تشبه تكشيرة نجيب الريحاني، يفرح بنجاحنا لأننا سنمنحه "الحلاوة"، الشهادة بـ 5 جنيهات للطالب المقتدر، وجنيهين للغلابة، لم ينتفع عم نجيب مني بقرش صاغ واحد طوال سنوات الدراسة الابتدائية، ذلك لأن أبلة روز كانت تحتفظ بشهادات الأوائل عندها وتسلمها لنا بنفسها تقديرا منها لمجهوداتنا، أيامها كنت من الأوائل قبل أن تدركني حرفة الأدب في الإعدادية، وأتحول إلى "صايع".
كرم، اسمه كرم، لعله نسيني الآن، لكن لو رآني سيذكرني بكل تأكيد، صديق من أصدقاء الطفولة، مسيحي، كنا نخزن لديه الكرة حين يؤذن للعصر ونحن نلعب في الشارع، نجري على الجامع، ونتركها عنده، أيامها كنا نصلي في الجامع لأن شباب الإخوان كانوا يمنحوننا الحلوى إذا ذهبنا، وينظمون لنا مسابقات وألعابا ترفيهية داخل المسجد، كنا نحبهم، رغم ابتسامتهم الموحدة مثل مرايل المدارس.
أبي بدوره، شبراوي، قادم من الريف، سكن عند مسيحيين، وكان يذاكر لعيالهم، جدتي لأمي كانت لها حكايات وروايات عن جيرانها الأقباط، وكيف كانوا يختارون بأنفسهم أسماء إخوتها الذكور، أما زوجها، جدي، مؤذن المسجد، فقد سمى بناته، فاطمة، خالتي، وعواطف، أمي، ولم ينادهما بهما لآخر عمره، ذلك لأنه كان يحب بنات صديقه المسيحي، فأطلق اسميهما على بناته على سبيل "الدلع".
الحكايات لا تنتهي، أو هكذا كنت أظنها، في 2005 يترشح وزير المالية يوسف بطرس غالي لانتخابات البرلمان، عن دائرة المعهد الفني بشبرا، لم يكن يوما من أهلها، لكنها دائرة يشكل المسيحيون فيها كثافة عالية، تدعمه الكنائس بشكل واضح، باصات محملة بالشباب تذهب إلى اللجان، الإخوان ليس لهم مرشح، لكنهم يصوتون للمنافس "المسلم" من باب العند، كي يرسب المسيحي أو عضو الحزب الوطني؟!!!
في الغالب، لا يسقط من يريده الحزب الحاكم أن ينجح، ومع ذلك يدخل غالي الإعادة مع الدكتور مدحت عبد الهادي، وتقف الداخلية في جانب وجيوش بلطجية الحزب الوطني في جانب آخر، لا تزوير، شعارنا الشفافية، النتيجة من الصندوق، ولكن من سيصل إلى الصندوق؟ في مشهد غرائبي كان أصدقاؤنا الأقباط يرفعون أذرعتهم كي يرى الباشا الضابط صلبانهم فيمرون فيما منعت خالتي التي سماها جدي على اسم بنت صديقه المسيحي من أن تدخل لأنها محجبة، أما من تجرأ من الشباب على الدخول رغما عن الأمن وتذرع بحقه الدستوري والقانوني فقد تكفلت به جيوش البلطجية، ونجح رجل مبارك بفارق أصوات مذهل لا يدل على وجود منافس أصلا.
ربما تدهشك الحكاية، أو تشعر ببعض المبالغة، لكن هذا ما حدث بالحرف، وأين، في
شبرا مصر، أجمل مكان في الدنيا حيث كنيسة الإيمان، ومسجد الخازندارة، وقصور واستراحات الأسرة العلوية، وبنات شبرا وشبابها الجدعان، من فعلها بمن، لا ندري، يوسف بطرس، أم الإخوان، أم الحزب الوطني، أم البلطجية، أم الزمان الذي لم يعد هو الزمان؟ وهل كان شيء يستحق أن نترك على جدران الذاكرة شروخا لا تجد ما يسترها ويحول دون انتهاك الصقيع لدفئنا منها؟ لا أعرف، لكنني ما زلت أسترق السمع إلى بيانو يصدر عن كنيسة بجوار بيتنا، الليلة عيد، كل عام نحن جميعا بخير، ومصر حرة بأهلها، أهلنا، غدا نكمل الحكايات.