لم يعرف القادة السياسيون إسم عبدالفتاح
السيسي إلا من خلال أحداث ثورة "يناير" حيث كانت هذه المرحلة ذروة النشاط في المجال العام للرجل، فقد كان اللواء السيسي وقتها حلقة وصل بين كثير من الأطراف كما أنه دخل في تفاوض الغرف المغلقة مع لاعبين متنوعين من الإخوان إلى رموز الثورة الشبابية، ومن
الفلول إلى رموز الأحزاب وكان السيسي متواجدا في الأحداث لحظة بلحظة، وما الصورة التي تجمعه مع رموز الثورة الشبابية وقتها إلا غيض من فيض الاجتماعات والمقابلات في فترة الثورة ومابعدها.
كانت المخابرات الحربية وعلى رأسها السيسي تدرس جيدا كل مايحدث وتحرص على أبعاده ومسبباته وكيفيته وعن النافذين في كل التكتلات، وعن التأثيرات والأوزان الحقيقية لكل طرف، ولهذا فالطرف الذي يمكن أن نفهم أنه يمتلك خيوط اللعبة منذ يناير إلى الآن كان جهاز عبدالفتاح السيسي "المخابرات الحربية" الذي أوكلت إليه مهام الأمن السياسي لفترة مابعد يناير وما بعد تراجع نفوذ أمن الدولة، وبالتالي كانت خيوط اللعبة كلها في جيب السيسي وقتئذ، فقد استحوذت المخابرات الحربية على دور جهاز أمن الدولة لفترة لتؤكد على نفوذ الجيش و مركزيته في إدارة الصراع السياسي خلال هذه الفترة الحرجة، والمنطق يدرك أن من يمتلك هذه الملفات في هذه الفترة "التأسيسية" لواقع سياسي جديد سيمتلك لاحقا القدرة على "إدارته" أو على الأقل سيكون أفضل السابحين فيه بحر متلاطم كونه يملك من "الخرائط" المعلوماتية مالا يملكها أطراف الصراع أجمعين.
حرص السيسي في تلك الفترة أن يقدم نفسه كصديق للجميع، فهو العسكري "المتدين" لدى الإسلاميين، وهو الليبرالي اقتصاديا لدى المتلبرلين، وهو كذلك القومي الحريص على الأهداف القومية لدى القوميين، وبالتالي امتلك عبدالفتاح السيسي منذ البداية نمط لعب جديد انعكس لاحقا على إدارة الدور السياسي للجيش في عهد وزارته للدفاع وقبلها بقليل، فقد وثق فيه الجميع على افتراقهم، وتلاعب بالقوى السياسية جميعها ثم وظفها في صورته الأخيرة "30 يونيو" ليخرج بتتويجه هو على رأس الأحداث مابعد يناير.. فكان السيسي حصاد تلك المرحلة جميعها، وبعد أن كان يستجدي ود كل القوى السياسية في أول الأمر أصبحت جميعها تستجدي وده أو تخشى بطشه وبهذا المشهد نؤسس لنتيجة هامة.
إن كل تفاصيل الحالة التي أنتجت يناير ومابعد يناير هي بالنسبة للسيسي تفاصيل "عمله" الأخير، وأهم ماصقل تجربته العسكرية الأمنية والسياسية، وبالتالي فلن يكون السيسي متيقظا لأكثر من تكرار نموذج يناير، كما أن أجهزة الأمن كالمخابرات وأمن الدولة وبقية المكونات التي تضررت من يناير جزئيا أصبحت مدركة بكل وضوح لأبعاد هذا الحدث ومسبباته وآليات تكونه بل وأعلم جيدا أنها درست جيدا كل ما أنتج الحالة وصنع لها الهالة بداية من السوشيال ميديا والنشطاء والخطاب الثوري الفضفاض الغير مؤدلج، كذلك دور الإسلاميين في هذا النموذج، وقد نجحت هذ الأجهزة جيدا في تفكيك كل ما ترتب على يناير من نتائج، ونقضته عروة عروة.. وهذا ليس من قبيل نظريات "المؤامرة" فليس أكثر مما نعيش فيه كدليل واضح لكل ذي عقل -إلا من تعلق قلبه بالخرافة- يوضح حجم التفكيك الذي حدث على يد الأجهزة الأمنية.
وما أود قوله تحديدا أن إسقاط نظام "السيسي" الذي تمرس على تفاصيل يناير لن يكون عبر تكرارها مجددا بشخوصها ورموزها وتركيبتها السياسية وآلياتها الحشدية والميدانية، فنجاحهم في إفشال يناير هو ما استحقوا به كرسي السلطة مجددا وبالتالي فتيقظهم دوما يأتي من هذه الجهة، وليس من حنكة المقاتل الباحث عن الانتقام أن يأتي خصمه من جهة عينه المتيقظة، فهذا أدعى للانتحار، وإنما من حيث غفلته ومكامن أمنه، فعنصر المباغته و المناورة والتضليل أداة هامة في الصراع، وتكرار ما تم حفظه من آليات للصراع تمرس الخصم على مواجهتها ليس إلا إضاعة للوقت والجهد، ولا مانع أن نحافظ على معدل ثابت من الأدوات التقليدية إلى حين إبداع جديد، لكن أن نكتفي بهذه الآليات وننتظر منها فرجا قريبا فنحن عند ذلك نتكبر على السنن!