بخيوط يحركها يمينا، أو يسارا، يستطيع "فوزي بكار" أن يغيّر قسمات وجه الكثيرين من متابعيه، وأن يدخل البهجة عليهم ويغيّر كثيرا من سلوكيات أطفالهم بالإضافة إلى محاكاة كثير من
التراث عبر "
عرائس الماريونت".
والماريونت هي عرائس يتم تصنيعها من أخشاب متصلة ببعض المفصلات حتى يمكن استخدام الخيوط لتحريك أجزاء جسم العروسة، وهي من الفنون الشعبية التي توارى الاهتمام بها بعض الشيء في الآونة الأخيرة.
وقال بكار، لاعب العرائس، للأناضول، إن صناعة عرائس الماريونت "فن شامل لجميع أنواع الفنون التشكيلية والسمعية، والبصرية، فمُحرك عرائس الماريونت، يمر بفنون عدة تبدأ بفن النحت والرسم، مرورًا بفن تصميم الأزياء، والديكور، لينتهي معه بكيفية الأداء الحركي، إلى جانب التلحين وعمل المونتاج".
بكار، الذي يبلغ من العمر 25 عامًا، قال إن عرائس الماريونت استطاعت أن تغيّر حياته، لتجعله يكسب عيْشه بتلك المهنة، التي لا يمتهنها الكثيرون في بلاده، فيتمكن من خلالها من تغيير حياة الآخرين.
وأضاف أن "عرائس الماريونت تدخل البهجة على حياة من يتابع عروضها، ويمكنها أن توصل فكرة لأحدهم أو تعدل سلوكا معينا، وتأثيرها على الأطفال كبير، فعندما نخاطب طفلاً من خلال عرض مسرحي يمكننا أن نشاركه معلومة أو نعدل سلوكه في أمر ما، خاصة عندما يرى عروسة تقوم بسلوك مخالف لما يفعله، يفهم بسرعة بخلاف التلقين".
وأشار بكار إلى أنه أنتج نحو 12 عرضًا مسرحيًا، خلال عمله، للأطفال، من بينها عرض "متأسف" (آسف)، و"متشكر" (شكرا)، وعرض "الضفدع الأصفر" الذي تتحدث فيه العرائس عن البيئة وكيفية المحافظة عليها، وعرض "يوسف وسره الكبير" وهو عرض لحل المشكلة الطائفية وكيف يعيش الجميع في وطن واحد، وعرض "الطفل المعجزة" الذي يهتم بطاقات الأطفال وإبداعاتهم.
وتابع : "تأتيني أصداء كبيرة من الأهالي والأطفال أنفسهم، ويكون هناك مطالب بالذهاب لمدارس هؤلاء الأطفال، وبالفعل استجبنا لمطالب هؤلاء الأهالي وقمنا بعمل عروض في مختلف المدن داخل
مصر، وخاصة الأماكن النائية، ولم يكن الغرض القيام بعمل هو بمثابة هواية ولكنها أيضا بمثابة حملات توعية أردنا أن نصلها لهؤلاء الأطفال".
العروض المسرحية لعرائس الماريونت لم تقف عند حدود المدارس لكنها شملت أيضًا المستشفيات، وتحديداً تلك المتعلقة بطب العيون، فيقدم بكار وزملاؤه عرائس تشرح كيفية المحافظة على العين، من خلال عروض جذابة وبسيطة تدفع هؤلاء الأطفال بالابتسام، عند رؤية العروسة.
وعلى بعد خطوات من ستار مسرح ساقية عبد المنعم الصاوي (مركز ثقافي خاص) للعرائس بمنطقة الزمالك (غرب العاصمة القاهرة)، تجد بكار جالسًا بجوار عرائسه، يمسك خيطًا ويحرّك آخر، ليضبطهما معا، إلى جانب محاولاته في أن يضع لمساته الأخيرة على العرائس التي ستقوم بعرضها المسرحي، لهؤلاء الأطفال، الذين يعتقدون للوهلة الأولى أنهم بصدد رؤية أشخاص حقيقيين، لا يختلفون كثيرًا عن أصدقائهم وزملائهم في المدرسة.
بكار الذي يتنقل بين ورشة عمل مليئة بالعرائس بمختلف الأشكال، يمسك بأدواته ويبدأ في رسم صورة للفنان المصري الراحل عبد الحليم حافظ على اسكتش (ورق رسم)، ليبدأ بعدها في استخدام القطع الخشبية لعمل التصميم، ثم نحت كافة التفاصيل من رأس وصدر ويدين وقدمين على مفصلات خشبية، لينتهي بتثبيتها معا وتلوينها، قبل أن يصنع الأزياء الخاصة التي تناسب ما كان يرتديه عبد الحليم.
ولفت بكار إلى أنه ما إن تسدل الستار عن عبد الحليم وفرقته، يظن الحضور أن عبد الحليم حضر بفرقته التي تقف خلفه ليحيى ليلة غنائية كما اعتاد، وفعليًا سيجد الفريق بأكمله، بقيادة عروسة ماريونت لعبد الحليم، تلتفت يمينًا ويسارًا، وتوجّه ذلك العازف، وتشير لصاحب الأكورديون بأن يتوقف، في تناغم يعيد للأذهان حفلات "حليم" الغنائية.
وأضاف: "هكذا نُحيي ذكرى عبد الحليم حافظ وغيره، للمصريين، نعيد لهم التراث الفني الذي أحبوه في الماضي، فليس العرائس كما يظنها البعض للتسلية والترفيه فحسب، فهي أحيانا تفعل ما لا تستطيع التكنولوجيا أن تفعله، ويكفي أنهم يرون عبد الحليم أمامهم، وأحيانا شخصيات سياسية كالرئيس الراحل جمال عبد الناصر".
ويعتبر بكار أن هناك مهمة كبيرة تقع على عاتقه، وهي إحياء تراث العروسة الماريونت نفسها بعدما اختفت تدريجيا من بين الفنون.
ومضي في حديثه، وهو يداعب خيوط عروسة جديدة لم يسمها بعد، "نحتاج أن تهتم الدولة مجدداً بفن عرائش الماريونت .. نريد أن نعيد مجددا هذا الفن الذي يخاطب جميع المراحل والثقافات".
وأشار إلى أن "صناعة عرائس الماريونت غير مكلفة بل على العكس ما أحققه منه كبير جدًا معنويا وماديا، والحقيقية أني أكسب عيشى من تلك المهنة، ناهيك عن القيمة الفنية والتربوية التي أجدها في هذا العمل.. لدى يقين بأنني طالما آمنت بهذه الهواية وأعطتها كل طاقتي وجهدي حتما سأحصل على ذلك التقدير المعنوي والمادي".
وعلاقة بكار بالعرائس تجاوزت موظف ينهي علاقته بالعرائس عند انتهاء عمله، فمنزل بكار يعج بعشرات العرائس، والتي تجد بعضها يتخذ مكانه على سرير بكار ذاته فيما تجلس عروسته المفضلة "عم سالم" على مكتبه وأمامها كوب من الشاي.
وعن هذا، قال لاعب العرائس : "كي أكون محرك عرائس كان يجب أن أقتنع بأن العروسة تتحرك فعلاً، عندما أستيقظ في الصباح أسأل عروسة عم سالم صباح الخير هل تريد أن تشرب شاي، أدير حوارات كثيرة مع تلك العرائس .. أهتم بصيانتها وألعب معها .. أصدق أنها تتحرك وهو ما يجعل الجمهور يصدقني".
الحالة التي يعيشها بكار، عبر عنها بالقول: "عندما أكون غاضبًا أو حزينًا بسبب موقف ما، أضرب العروسة لكني في النهاية أعتذر لها، وعندما أكون سعيدًا أجدني أقبل يدي تلك العروسة".
"العرائس هي الأخرى تغضب مني أحيانا عندما لا أقوم بصيانتها ووقتها تنقطع الخيوط في يدي كدليل على غضبها، وهذا أصعب شيء لأن تلك الخيوط بمثابة الدماء التي تحركها، ولا أملك في هذه الحالة سوى الاعتذار والاهتمام بها مجددا"، بحسب بكار.
وأضاف "هذا ليس جنون لكني أشعر بالعروسة عندما تبكي وتضحك وتغني، أخرج جميع انفعالاتي وغضبي من كل شيء يحيط بنا معها، أمارس الفن وأعبر بالألوان، سواء كانت فرحًا أم غاضبًا، أخرج تلك الانفعالات في ذلك الفن، وهو ما يغيّر حياتي وحياة الآخرين".
وتعود عرائس الماريونت إلى الحضارة اليونانية عندما كان يستخدم اليونانيون الأقنعة والأقدام الخشبية، ثم ظهرت بعد ذلك في العراق ما يسمى بخيال الظل وفي مصر ما يسمى بأقنعة الآلهة الفرعونية.
وبحسب بكار، وغيره من ممارسي هذا الفن، فإن صناعة عرائس الماريونت في مصر تعود لإنشاء مسرح العرائس في الستينيات، من خلال أهم العروض المسرحية التي استخدمت عرائس الماريونت وهو أوبريت "الليلة الكبيرة" للراحل صلاح السقا رائد فن العرائس بمصر.