من أراد أن يقف علي صحة مقولة أن الموت يختار، فلينظر إلى موت
اليساري المناضل أحمد سيف الإسلام حمد عن عمر يناهز "63" عاماً، في وقت بقي فيه اليساري المنبطح رفعت السعيد حياً يسعي رغم أنه يدق أبواب الثمانين بعنف.
عندما مات الأستاذ أحمد نبيل الهلالي، كتبت مقالاً حمل عنوان " ورحل آخر اليساريين المحترمين"، ولم انتبه لهول الصدمة، أن الهلالي ترك سلالته، وأن من بين هذه السلالة، التي لم تقبل الدنية في أمرها، كان الأستاذ احمد سيف الإسلام حمد، مدير ومؤسس مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، والذي كان يقف مع كل من يتم انتهاك حقوقهم بغض النظر عن انتمائهم السياسي، ولهذا شاهدناه مؤخراً يندد بانتهاك حقوق المعتقلين الذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، في مرحلة بلغ فيها الاستقطاب السياسي حد، أنه فرق بين المرء وأهله، في سابقة لم يعرفها المجتمع
المصري من قبل. اقصد بها مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو من العام الماضي.
نعلم أن السلالة التي ينتمي لها سيف الإسلام حمد، هي سلالة تكاد تنقرض، ليبق من أهل اليسار من باعوا بالرخيص لنظام مبارك، ودفع العداء للإسلاميين، من كانوا يهتفون من قبل ضد حكم العسكر، وضد الاستبداد، لأن يركنوا لهذا الحكم، ويتعايشون مع الاستبداد، مع أنهم من الفصيل اليساري الذي ظل محافظاً علي مبادئه في زمن مبارك، ليبدو الآن كما لو كانوا ينتظرون الفرصة، وعندما وجودوها سانحة ليكونوا مقربين من السلطة انتهزوها، وبدا واضحاً أن أحمد سيف الإسلام، ليس هو قدوتهم، ولكن مثلهم الأعلى هو رفعت السعيد!.
من قبل كان هذا الفصيل المعارض لمبارك، ينتقد السعيد باعتباره رمز الانبطاح للسلطة، لكن العداء للإخوان، دفعهم للغدو خماصاً وبطاناً ليكونوا مثله، ولم يكونوا كالقابض علي جمر المبادئ مثل سيف الإسلام حمد، الذي ارتفع عن الايدلوجيا ليكون إنساناً.
عرفت الأستاذ أحمد سيف الإسلام حمد عن قرب عندما لفق لي نظام مبارك قضية إصدار صحيفة بدون ترخيص، وعلي أثر هذا قامت النيابة العامة بإصدار قرار بضبطي وإحضاري. ولم يكن المشرع المصري قد أقر عقوبة على "جريمة" إصدار صحيفة بدون ترخيص. ولم أكن قد أصدرت صحيفة بدون ترخيص من الأساس!.
برغم هذا فان النيابة العامة "أخلت سبيلي" بكفالة قدرها خمسمائة جنيه.
وعندما أحالت النيابة القضية للمحكمة، ذهبت لمركز هشام مبارك بوسط القاهرة، وهناك شكل سيف الإسلام حمد اجتماعاً من المحامين بمكتبه، أذكر من بينهم خالد علي المرشح الرئاسي فيما بعد، وكان حينئذ يعمل في هذا المركز الذي يحمل اسم الحقوقي الراحل، هشام مبارك، الذي وافته المنية شاباً.
ورغم أنه لا عقوبة إلا بنص، فقد صدر حكم بإدانتي من محكمة أول درجة، بغرامة مائتي جنيه، علي إصدار صحيفة بدون ترخيص، لم أصدرها.
لا تمثل العقوبة في قرار النيابة أو في حكم المحكمة أمراً عظيماً، فقد كان المستهدف من القضية أن يتم ضبطي وإحضاري وكأنني قمت بسرقة البنك المركزي، وجاءت القرارات التالية للتغطية علي قرار منعدم قانوناً، وهو قرار ضبطي وإحضاري.
وكتب سيف الإسلام حمد عريضة الاستئناف علي الحكم، وعند نظر القضية، كان مركز هشام مبارك مشغولاً بقضايا المعتقلين في مظاهرات التنديد بالاعتداء الأمريكي علي العراق، وربما نسي قضيتي، وربما وازن بين الأضرار، فالحضور مع معتقل مقدم ولا شك على قضية مهما كان الحكم فيها فلن يزيد عن تأييد الحكم السابق بدفع غرامة قدرها مائتي جنيه. وربما اعتقد أن المحكمة لن تصدر حكمها من أول جلسة!.
لقد جاءت "الطوبة في المعطوبة" وصدر حكم جنح مستأنف بعد أول جلسة بتأييد حكم أول درجة، وقد أغضبني هذا فقد كنت استهدف الحصول علي البراءة حتى وان كانت الإدانة ليست مزعجة، لتأكيد حجم تربص وزير الداخلية بي، فشرطة المصنفات الفنية هي من فبركت القضية.
أعذار سيف الإسلام حمد على عدم الحضور مقبولة، لكنها لم تمنعني من الغضب، وربما أحس الرجل بغضبي، فلم يكد يعلم بالقضية التي رفعها ضدي العقيد معمر القذافي ويتهمني فيها بسبه وقذفه وإهانته، حتى أرسل محامياً من مركز هشام مبارك لأكثر من جلسة، وفي كل مرة كان القاضي يطلب منه التوكيل، فيتصل بي ويقوم بشبه مطاردتي من أجل تمكينه من الدفاع عني في هذه القضية.
ولم افعل، لسبب لا علاقة له بغضبي، فقد وجدت محاميي العقيد الليبي قد أقاموا الدعوى باسمي الصحفي، وقد طالبهم القاضي بالاسم الثلاثي، وكلف المباحث الجنائية رسمياً بتقديم اسمي ثلاثيا، وتقاعست المباحث عن ذلك، ولما وجدت جماعة القذافي أنه قد يحكم برفض الدعوى فقد اخترعوا اسماً ثلاثياً لي ليس صحيحاً. وكنت قد قررت أن ألاعبهم، وحضور محامي بتوكيل مني سيحل هذه الإشكالية. وإذا حدث الأسوأ وقررت المحكمة الاستجابة لطلب القذافي فقد كان ما يطلبه هو تعويضا قدره مليون جنيه، والحكم بهذا الشكل لن يصدر ضدي، فليبحثوا عن صاحب الاسم الذي دونوه في القضية، ولو تم تصحيح الاسم، فليبحثوا عن المليون جنيه في أحلامهم!.
عندما اقتربت من سيف الإسلام حمد وجدته من هذا النوع من البشر الذي تألفه من أول لقاء، وتشعر أنه يعيش بأفكاره اليسارية في مأكله ومشربه، فقد كان أكثر من متواضع، ولم يكن متخندقاً داخل أيديولوجيته، وربما كان الإيمان الحقيقي بالايدلوجيا سبباً في أن يعيش حياته لقضية الدفاع عن حقوق الإنسان، بغض النظر عن الانتماء، ومن حيث كون الإنسان قيمة في حد ذاته.
رحم الله سيف الإسلام حمد، فلم يكن آخر اليساريين المحترمين، فلا يزال من اليسار المصري من ينتمون لسلالته، وان كانت الأكثرية تنتمي لسلالة رفعت السعيد.