تباهيت في مقالي الأخير في عربي 21، بأنني أجيد العربية إلى حد ما، وأوضحت أن مرد التباهي هو أنني ولدت ونشأت ناطقا باللغة النوبية، وكان الشاهد في ما قلت هو إنه لو كان بإمكان شخص مثلي أن يتعلم العربية في المدرسة، ثم يأتي اليوم الذي يقف فيه منافحا عنها، فإن معنى ذلك أنها ليست لغة صعبة، كما يزعم البعض لتبرير ضعف إلمامهم بها، أو عزوفهم عن تعلمها، والزعم بأن لغة ما صعبة لا يقوم على دليل، فهناك إجماع بين العوام في كل أنحاء العالم بأن اللغة
الصينية هي الأكثر صعوبة على مستوى الكرة الأرضية.
ولكن لو كان الأمر كذلك لما تسنى لطفل صيني عمره سنتان أن ينطق بها، ولما تسنى لصبي صيني في الخامسة عشر أن يعبر بها عن نفسه في اختبارات كافة المواد الأكاديمية، والغريب في الأمر أن المتفقهين في اللغات عندما يصنفوا ألسنة الشعوب من حيث صعوبة النطق بمفرداتها وتركيب الجمل والكتابة، لا يضعون
اللغة العربية بين "العشرين الأوائل" من حيث الصعوبة، بل تأتي الفرنسية على رأس القائمة التي وضعتها هيئة اليونسكو، لأن طريقة نطق كلماتها "مشكلة" ولا توجد كلمة فرنسية لا تخلو من حروف عديمة الجدوى، لأنها لا ترد في النطق، فرئيسها الحالي – مثلا - يحمل اسم "أولان" وفي رواية أخرى "أولو" ولو قرأت اسمه مكتوبا بالأحرف اللاتينية لحسبت أن اسمه هولاند، لأن هجاء الكلمات الفرنسية قائم على أساس تاريخي ولا علاقة له بالطريقة التي تُنطق بها.
وبالمقابل فلو علمت طفلا عربيا أو كمبوديا او بوركينا فاسويا حروف اللغة العربية ثم طلبت منه أن يكتب "عنبر/ قلم/ سامي"، فإنه سيكتبها على النحو الصحيح ما لم يكن دماغه مصفحا (نعترف بأن الصعوبة في اللغة العربية ليس في الكتابة بل في القراءة في غياب علامات الترقيم لعدم وجود حروف ليِّنة قصيرة short vowels فيها ويستعاض عنها بعلامات الكسر والفتح والضم والسكون)، ومع هذا فالفرنسية هي اللغة الرسمية بل والشعبية في 29 دولة معظمها في أفريقيا، ومفردات اللغة اليابانية لا تُكتب كما تُلفظ، وفي النرويج يتكلم كل مواطن (تعداد السكان دون الستة ملايين) لغة بلده بالطريقة التي تعجبه، بمعنى أنه لا توجد طريقة قياسية معيارية لنطق كلماتها ذات الأصول الجرمانية.
وبالمقابل فالفصحى (وليس اللهجات) العربية واحدة نطقا وكتابة، من طنجة إلى المنامة، وهي كذلك لمن يتعلمها من الإندونيسيين والهولنديين والطاشناق، بينما هناك إنجليزية أمريكية وأخرى بريطانية، باختلاف واضح في رسم/ تهجئة الكلمات بينهما، ويقال إن الإنجليز استعمروا الهند طويلا ثم أدركوا أن عليهم الاختيار بين الإبقاء على إمبراطوريتهم أو لغتهم، فقرروا إنقاذ اللغة وتركوا الهند، ولو حاول أوربي يزور الدنمرك تعلم لغة أهله، فإنه يصاب بالتهاب الجيوب الأنفية والغدد الليمفاوية، لأن تلك اللغة تتألف من أصوات يصعب على معظم بني البشر الإتيان بها.
ولا أفهم لماذا ظهر بيننا جيل شباب يحسب أن تطعيم الكلام بمفردات إنجليزية أو فرنسية "كوول"!! أي، دليل تحضُّر ومواكبة لروح العصر الذي هم فيه في خسر، ولكن يصل الأمر حد السخف المقزز عندما تسمع في العشرات من قنواتنا الفضائية مذيعين ومذيعات يقرأون الأرقام: خمسة، سبعة، زيرو، واحد!! لماذا الزيرو بالذات وهو الرقم الوحيد الذي نحتكر حقوق الملكية الفكرية لاختراعه، ورابطنا فيه لنحو 1200 سنة، وصرنا نتوق للنهوض بمشروع ثقافي عربي معاصر، نرحل به عن نقطة الصفر، بعد أن عشنا قرونا ونحن نجتر من سنام الأسلاف.
يا جماعة انظروا حتى إلى الأسماء الشائعة عندنا لتعرفوا كم كان الله كريما معنا عندما خصنا بهذه اللغة: عمر وندى وشهد ومحمد وسوسن وحسن، أسماء سهلة الرسم والنطق، ثم انظروا حال السريلانكيين ولديهم رئيسة (سابقة) اسمها سيراميفو كوماراتونغا باندارانايكا، ورئيس إندونيسيا الحالي اسمه سوسيلو يوديونو بانغ بانغ!! اسم هذا أم مظاهرة؟ نعم عندنا أسماء "طويلة" مثل السموءل، ولكنها محدودة الاستخدام، وأخرى مثل "عبد ال...."، و"شهاب الدين"، ولكنها مركبة وتتألف من كلمتين سهلتين لكل منهما معنى معلوم، وأختتم بحكاية التلميذ الذي سأله المدرس عن المدينة التي فتحها محمد الفاتح وأنهى بها الدولة البيزنطية، فكان الجواب: القسطنطينية، فصاح المدرس: ممتاز يا ابني.. اكتبها على السبورة، فصاح التلميذ بدوره: لا هو فتح دُبي!!
عيب أن نعيب لغتنا والعيب فينا، وهي تتألف من 28 حرفا، وإذا احتسبت الهمزة حرفا صارت 29 حرفا، بينما عدد حروف
اللغة الصينية مصدر خلاف، تماما كعدد الدول الأعضاء في الجامعة العربية، ولكن الراجح أن عددها أكثر من 700، ومع هذا يتكلم بها مليار و400 مليون شخص، وهي اللغة التي درسوا بها في كل المراحل التعليمية ووضعوا بلادهم في صدارة بلاد العالم اقتصاديا (ولا ينفي تحول الصين إلى عملاق اقتصادي، أن معظم بضاعتها في أسواقنا "مضروبة"، فهي تنتج أشياء عالية الجودة، ولكن ولأن الرقابة على الواردات في بلداننا "مضروبة"، فقد صارت أسواقنا معرضة ل"الضرب" الصيني)