بعد اختيار السيد مهدي جمعة لرئاسة الحكومة القادمة، أصبح خروج حركة
النهضة من السلطة أمرا مؤكدا، لا ينتظر سوى إتمام الجوانب الإجرائية التي قد لا تتجاوز منتصف شهر جانفي / يناير المقبل.
وفي هذا السياق سيكثر الحديث عن تفسير دلالات هذا الحدث الهام والاستثنائي في تاريخ المنطقة، خاصة وأن الأمر يتعلق بحركة إسلامية وجدت نفسها تدير دفة الحكم مع حليفين لها، ولم تتمكن من البقاء في السلطة إلى نهاية العهدة وتنظيم انتخابات ديمقراطية ستكون الثانية في مسيرة الدولة الوطنية في
تونس.
أول ما يجب لفت النظر إليه أن الحركة اضطرت إلى مغادرة الحكومة ولم يكن ذلك باختيار منها.
لقد أسهمت المعارضة وجزء هام من المجتمع المدني، إلى جانب وسائل الإعلام والقوى الخارجية، في دفع الحركة نحو القبول بطلب استقالة الحكومة. وهو الشعار المحوري الذي رفعته كل هذه الأطراف، بطرق متعددة، بعد اغتيال عضو المجلس الوطني التأسيسي محمد البراهمي. ومن أجل تحقيقه تم تنظيم اعتصام باردو، ونظمت مسيرات شعبية جمعت أحيانا عشرات الآلاف من المشاركين.
مع أهمية هذا الضغط الذي قادته المعارضة، إلا أن ذلك لم يكن العامل الوحيد الذي أدى إلى هذه النتيجة، وقد لا يكون العامل الحاسم. فإلى جانب ذلك يوجد عاملان آخران قد أسهما بقدر واسع في جعل هياكل الحركة تقبل بهذه النهاية غير السعيدة لأول اختبار لها في الحكم.
يتعلق العامل الأول بما حدث في مصر. لقد أخافت عملية إخراج الإخوان المسلمين من السلطة قادة "النهضة"، وأشعرتهم بأن المناخ الإقليمي والدولي قد اختلف كثيرا عما كان عليه بعد الثورات، وبالأخص عند وصول الإسلاميين إلى الحكم في كل من تونس ومصر.
لقد أدرك راشد الغنوشي أن التحرك الشعبي الواسع ضد الرئيس محمد مرسي، ثم الانقلاب عليه من المؤسسة العسكرية، ودعم معظم دول الخليج لذلك، إلى جانب الموقف الأمريكي غير الحاسم وتأرجح السياسات الأوروبية تجاه الحدث، لم تكن سوى مؤشرات قوية على بداية رفع الغطاء الدولي عن الإسلاميين بعد فترة وجيزة من إدارتهم لشؤون الحكم في بعض دول المنطقة.
وبالرغم من اختلاف ملابسات الحالة التونسية، إلا أن رئيس حركة النهضة استشعر الخطر، خاصة بعد أن أعلن الاتحاد الأوروبي وأمريكا مساندتهم لخارطة الطريق التي أعلن عنها الاتحاد العام التونسي للشغل بمعية ثلاث منظمات مدنية كبرى في البلاد.
وأهم ما نصت عليه هذه الخارطة الدعوة إلى استقالة الحكومة التي تقودها حركة النهضة. فكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر الذي أشر على دعم غربي مؤكد لتغيير المشهد السياسي في تونس.
أما العامل الثاني الذي أدى إلى هذه النتيجة، فيتمثل في أنه بعد سنتين من ممارسة الحكم، تآكل رصيد الحركة بشكل ملحوظ، حيث اضطرت حكومتها الأولى والثانية إلى اتخاذ إجراءات غير شعبية، إلى جانب العجز عن تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهو ما وضعها في مواجهة انتقادات واسعة من قبل مختلف الشرائح، خاصة في الجهات المحرومة. وبذلك وجدت نفسها بعيدة جدا عن الوعود التي رفعتها خلال الحملة الانتخابية. وهو ما تجلى في تراجع حظوظها في استطلاعات الرأي، الأمر الذي أدى إلى اقناعها بأن استمرارها في السلطة سيزيد من تآكل قاعدتها الانتخابية.
اليوم، يقدم قادة الحركة خروجهم من الحكومة باعتباره "تضحية كبيرة" وأن الحكم لديهم "وسيلة وليس هدفا" كما ورد على لسان الوزير المستشار لدى رئيس الحكومة والقيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري.
بل إن رئيس الحركة
الشيخ راشد الغنوشي صاغ المعادلة بطريقة مختلفة. ففي محاولة منه لامتصاص حالة الغبن التي يشعر بها أنصاره وهم يغادرون مواقع السلطة التنفيذية، أكد في أكثر من تصريح على أن الحركة "خرجت من الحكومة ولم تخرج من الحكم". وعلل ذلك بأن النهضة لا تزال قوية داخل المجلس التأسيسي الذي يشكل "قاعدة الحكم في هذه المرحلة". كما طمأن قواعده بالقول بأن الحركة ستبقى في هذا الموقع إلى وقت طويل. وذلك في إشارة إلى حجم الحركة الشعبي الذي سيمكنها من الاستمرار كطرف رئيسي في أي برلمان قادم.
رغم السياق السياسي الذي أجبر حركة النهضة، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية القرار الذي تم اتخاذه، والذي دفع صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية إلى القول بأنه "في ديمقراطية ناشئة، تبرز لحظة حاسمة في غاية الأهمية، والتي تتجلى في مشهد تخلي أول قيادة منتخبة في البلاد عن السلطة بشكل سلمي". بل إن الصحيفة ذهبت إلى أكثر من ذلك عندما شبهت الحدث بـ"مشهد مماثل لتخلي جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة عن منصبه".
المسألة أعقد بكثير من هذه المقارنة الشكلية، لأن حركة النهضة وإن اتخذت هذا القرار بدل أن تجازف بالإصرار على البقاء في السلطة مهما كانت النتائج، تجد نفسها اليوم في حاجة إلى تقييم تجربتها، واستيعاب الأسباب التي أدت إلى فشلها، لأن من لا يحاسب نفسه بشدة فلن يتقدم. وأمامها سنة لإعادة تأهيل نفسها قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.